الجمعة، 2 ديسمبر 2011

مقدمة أبن خلدون : الجزء التّاسع



و هما على نسبة واحدة فيهما. فهي لبنة واحدة في التمثيل. ففي النبؤة لبنة ذهب و في الولاية لبنة فضة للتفاوت بين الرتبتين كما بين الذهب و الفضة. فيجعلون لبنة الذهب كناية عن النبي صلى الله عليه و سلم و لبنة الفضة كناية عن هذا الولي الفاطمي المنتظر و ذلك خاتم الأنبياء و هذا خاتم الأولياء. و قال ابن العربي فيما نقل ابن أبي واصل عنه و هذا الإمام المنتظر هو من أهل البيت من ولد فاطمة و ظهوره يكون من بعد مضي ( خ ف ج ) من الهجرة و رسم حروفاً ثلاثة يريد عددها بحساب الجمل و هو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة و الفاء أخت القاف بثمانين و الجيم المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة و ذلك ستمائة و ثلاث و ثمانون سنة و هي آخر القرن السابع و لما انصرم هذا العصر و لم يظهر حمل ذلك بعض المقلدين لهم على أن المراد بتلك المدة مولده و عبر بظهوره عن مولده و أن خروجه يكون بعد العشر السبعمائة فإنه الإمام الناجم من ناجية المغرب. قال: و إذا كان مولده كما زعم ابن العربي سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة فيكون عمره عند خروجه ستاً و عشرين سنة قال و زعموا أن خروج الدجال يكون سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة من اليوم المحمدي و ابتداء اليوم المحمدي عندهم من يوم وفاة النبي صلى الله عليه و سلم إلى تمام ألف سنة قال ابن أبي واصل في شرحه كتاب خلع النعلين الولي المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمد المهدي و خاتم الأولياء و ليس هو بنبي و إنما هو ولي ابتعثه روحه و حبيبه. قال صلى الله عليه و سلم: العالم في قومه كالنبي في أمته. و قال: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل و لم تزل البشرى تتابع به من أول اليوم المحمدي إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم و تأكدت و تضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته و ازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلم جرا قال و ذكر الكندي: أن هذا الولي هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر و يجدد الإسلام و يظهر العدل و يفتح جزيرة الأندلس و يصل إلى رومية فيفتحها و يسير إلى المشرق فيفتحه و يفتح القسطنطيبية و يصير له ملك الأرض فيتقوى المسلمون و يعلو الإسلام و يطهر دين الحنيفية فإن من صلاة الظهر إلى صلاة العصر وقت صلاة قال عليه الصلاة و السلام: ما بين هذين وقت و قال الكندي أيضاً: الحروف العربية غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة و ثلاث و أربعون و سبع دجالية ثم ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدنيا وتمشي الشاة مع الذئب ثم مبلغ ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة و سبعون عاماً عدد حروف العجم ( ق ي ن ) دولة العدل منها أربعون عاماً قال ابن أبي واصل و ما ورد من قوله لا مهدي إلا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته و قيل لا يتكلم في المهد إلا عيسى و هذا مدفوع بحديث جريج و غير. و قد جاء في الصحيح أنه قال: ( لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشياً ).
و قد أعطى الوجود أن منهم من كان في أول الإسلام و منهم من سيكون في آخره. و قال: الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى و ثلاثون أو ست و ثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن و أول أمر معاوية فيكون أول أمر معاوية خلافة أخذاً بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء و أما سابع الخلفاء فعمر بن عند العزيز. و الباقون خمسة من أهل البيت من ذرية علي يؤيده قوله: ( إنك لذو قرنيها ) يريد الأمة أي إنك لخليفة في أولها و ذريتك في آخبرها. و ربما استدل بهذا الحديث القائلون بالرجعة. فالأول هو المشار إليه عندهم بطلوع الشمس من مغربها. و قد قال صلى الله عليه و سلم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده و الذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله و قد انفق عمر بن الخطاب كنوز كسرى في سبيل الله و الذي يهلك قيصر و ينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حين يفتح القسطنطينية: فنعم الأمير أميرها و نعم الجيش ذلك الجيش.
كذا قال صلى الله عليه و سلم: و مدة حكمه بضع و البضع من ثلاث إلى تسع و قيل إلى عشر و جاء ذكر أربعين و في بعض الروايات سبعين. و أما الأربعون فإنها مدته و مدة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السلام قال و ذكر أصحاب النجوم و القرانات أن مدة بقاء أمر و أهل بيته من بعده مائة و تسعة و خمسون عاماً فيكون الأمر على هذا جارياً على الخلافة و العدل أربعين أو سبعين ثم تختلف الأحوال فتكون ملكاً انتهي كلام ابن أبي واصل. و قال في موضع آخر: ( نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمدي حين تمضي ثلاثة أرباعه ) قال و ذكر الكندي يعقوب بن إسحاق في كتاب الجفر الذي ذكر فيه القرانات: ( أنه إذا وصل القرآن إلى الثور على رأس ضح بحرفين الضاد المعجمة و الحاء المهملة ) يريد ثمانية و تسعين و ستمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى قال و قد ورد في الحديث أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلتين مزعفرتين صفراوين ممصرتين واضعاً كفيه على أجنحة الملكين له لمة كأنما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر و إذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ كثير خيلان الوجه و في حديث آخر مربوع الخلق و إلى البياض و الحمرة. و في آخر: أنه يتزوج في الغرب. و الغرب دلو البادية يريد اله يتزوج منها و تلد زوجته. و ذكر وفاته بعد أربعين عاماً. و جاء أن عيسى يموت بالمدينة و يدفن إلى جانب عمر بن الخطاب. و جاء أن أبا بكر و عمر يحشران بين نبيين قال ابن أبي واصل: ( و الشيعة تقول إنه هو المسيح مسيح المسائح من آل محمد قلت و عليه حمل بعض المتصوفة حديث لا مهدي إلا عيسى أي لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع و عدم النسخ إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت و الرجل و المكان بأدلة واهية و تحكمات مختلفة فينقضي الزمان و لا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تحديد رأي آخر تنتحل كما تراه من مفهومات لغوية و أشياء تخييلية و أحكام نجومية في هذا انقضت أعمار أن أول منهم و الآخر.
و أما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة و مراسم الحق و يتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم يقول من ولد فاطمة و بعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب كان في أول هذه المائة الثامنة و أخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكرياء عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة و ما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا و الحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين و الملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره و تدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه. و قد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك و عصبية الفاطميين بل و قريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق و وجد أمم آخرون قد اشتغلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة و ينبع بالمدينة من الطالبين من بني حسن و بني حسين و بني جعفر و هم منتشرون في تلك البلاد و غالبون عليها و هم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم و إماراتهم يبلغون آلافاً من الكثرة فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم و يؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة و عصبة وافية بإظهار كلمته و حمل الناس عليها و أما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق من غير عصبية و لا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك و لا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة. و أما ما تدعيه العامة و الأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه و لا علم يفيده فيجيبون ذلك على غير نسبة و في غير مكان تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي و لا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه و أكثر ما يجيبون في ذلك القاصية من الممالك و أطراف العمران مثل الزاب بأفريقية و السوس من المغرب. و نجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة و اعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته زعماً لا مستند لهم إلا غرابة تلك الأمم و بعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثيرة أو قلة أو ضعف أو قوة و لبعد القاصية عن منال الدولة و خروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن برقة الدولة و منال الأحكام و القهر و لا محصول لديهم في ذلك إلا هذا. و قد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يمييه تمامها وسواساً و حمقاً و قتل كثير منهم. اخبرني شيخناً محمد بن إبراهيم الأبلي قال خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة و عصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويرزي نسبة إلى توزر مصغراً و ادعى أنه الفاطمي المنتظر و اتبعه الكثير من أهل السوس من ضالةً و كزولة و عظم أمره و خافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً و انحل أمره. و كذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة و عشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس و ادعى أنه الفاطمي و اتبعه الدهماء من غمارة و دخل مدينة فاس عنوة و حرق أسواقها و ارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة و لم يتم أمره. و كثير من هذا النمط. و أخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا و هو أنه صحب في حجة في رباط العباد و هو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ و الخادم. قال و كان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان. قال و تأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم و أنهم إنما جاءوا من موطنهم بكر بلاء لطلب هذا الأمر و انتحال دعوة الفاطمي بالمغرب. فلما عاين دولة بني مرين و يوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط و ليس هذا الوقت وقتنا. و يدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن و لا شوكة له و أن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان و رجع إلى الحق و أقصر عن مطامعه. و بقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم و قريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول و الله يعلم و أنتم لا تعلمون. و قد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق و القيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي و لا غيره و إنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة و تغيير المنكر و يعتني بذلك و يكثر تابعه و أكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما قدمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم لما أن توبة العرب و رجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة و النهب لا يعقلون في توبتهم و إقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة و منها توبتهم. فتجد ذلك المنتحل للدعوة و القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الاقتداء و الاتباع إنما دينهم الإعراض عن النهب و البغي و إفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا و المعاش بأقصى جهدهم. و شتان بين طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق و من طلب الدنيا فاتفاقهما ممتنع لا تستحكم له صبغة في الدين و لا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة و لا يكثرون. و يختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه و ولا يته في نفسه دون تابعه فإذا هلك انحل أمرهم و تلاشت عصبتهم و قد وقع ذلك بأفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطون منهم يعرفون بمسلم و كان يسمى سعادة و كان أشد ديناً من الأول و أقوم طريقة في نفسه و مع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي في ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم و رياح و بعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك و يلبسون فيها و ينتحلون اسم السنة و ليسوا عليها إلا الأقل فلا يتيم لهم و لا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى.

الفصل الرابع و الخمسون في ابتداء الدول و الأمم و في الكلام على الملاحم و الكشف عن مسمى الجفر
إعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق إلى عواقب أمورهم و علم ما يحدث لهم من حياة و موت و خير و شر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا و معرفة مدد الدول أو تفاوتها و التطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها و لذلك تجد الكثير من الناس يتشوقون إلى الوقوف على ذلك في المنام و الأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك و السوقة معروفة و لقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات و الدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم و تروح نسوان المدينة و صبيانها و كثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب و الجاه و المعاش و المعاشرة و العداوة و أمثال ذلك ما بين خط في الرمل و يسمونه المنجم و طرفي بالحصى و الحبوب و يسمونه الحاسب و نظر في المرايا و المياه و يسمونه ضارب المندل و هو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك و إن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية. و أكثر ما يعتني بذلك و يتطلع إليه الأمراء و الملوك في آماد دولتهم و لذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه و كل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها و ما يحدث لهم من الحرب و الملاحم و مدة بقاء الدولة و عدد الملوك فيها و التعرض لأسمائهم و يسمى مثل ذلك الحدثان و كان في العرب الكهان و العرافون يرجعون إليهم في ذلك و قد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك و الدولة كما وقع لشق و سطيح في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثم رجوعها إليهم ثم ظهر الملك و الدولة للعرب من بعد ذلك و كذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حيث بعث إليه كسرى بها مع عند المسيح و أخبرهم بظهور دولة العرب. و كذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن و يقال من غمرة له كلمات حدثانية على طريقة الشر برطانتهم و فيها حدثان كثير و معظمة فيما يكون. لزناتة من الملك و الدولة بالمغرب و هي متداولة بين أهل الجيل و هم يزعمون تارة أنه ولي و تارة أنه كاهن و قد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير و الله أعلم. و قد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء أن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإن أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه. و أما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا و مدتها على العموم و فيما يرجع إلى الدولة و أعمارها على الخصوص و كان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام لآثار منقولة عن الصحابة و خصوصاً مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأخبار و وهب بن منبه و أمثالهما و ربما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة و تأويلات محتملة. و وقع لجعفر و أمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه و الله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية و إذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم و أعقابهم و قد قال صلى الله عليه و سلم: إن فيكم محدثين فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة و الكرامات الموهوبة. و أما بعد صدر الملة و حين علق الناس على العلوم و الاصطلاحات و ترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي. فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك و الدول و سائر الأمور العامة من القرانات و في المواليد و المسائل و سائر الأمور الخاصة من الطوالع لها و هي شكل الفلك عند حدوثها فلنذكر الآن ما وقع لأهل الأثر في ذلك ثم يرجع إلى كلام المنجمين. أما أهل الأثر فلهم في مدة الملل و بقاء الدنيا على ما وقع في كتاب السهيلي فإنه نقل عن الطبري ما يقتضي أن مدة بقاء الدنيا منذ الملة خمسمائة سنة و نقص ذلك بظهور كذبه و مستند الطبري في ذلك أنه نقل عن ابن عباس أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة و لم يذكر لذلك دليلاً. و سره و الله أعلم تقدير الدنيا بأيام خلق السماوات و الأرض و هي سبعة ثم اليوم بألف سنة لقوله: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون و قد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: أجلهم في أجل من كان قبلهم من صلاة العصر إلى غروب الشمس و قال: بعثت أنا و الساعة كهاتين و أشار بالسبابة و الوسطى و قدر ما بين صلاة العصر و غروب الشمس و حين صيرورة ظل كل شيء مثليه يكون على التقريب نصف سبع، و كذلك وصل الوسطى على السبابة فتكون هذه المدة نصف سبع الجمعة كلها و هو خمسمائة سنة و يؤيده قوله صلى الله عليه و سلم: لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم فدل ذلك على أن مدة الدنيا قبل الملة خمسة آلاف و خمسمائة سنة و عن وهب بن منبه أنها خمسة آلاف و ستمائة سنة أعني الماضي و عن كعب أن مدة الدنيا كلها ستة آلاف سنة قال السهيلي: و ليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكره مع وقوع الوجود بخلافه فأما قوله: لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم فلا يقتضي نفي أن الزيادة على النصف و أما قوله: بعثت أنا و الساعة كهاتين فإنما فيه الإشارة إلى القرب و أنه ليس بينه و بين الساعة نبي غيره و لا شرع غير شرعه ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من مدرك آخر لو ساعده التحقيق و هو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المكرر قال و هي أربعة عشر حرفاً يجمعها قولك ( ألم يسطع نص حق كره ) فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة و ثلاثة أضافه إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثته فهذه هي مدة الملة قال و لا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف و فوائدها قلت: و كونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره و لا التعويل عليه. و الذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع في كتاب السير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أخبار اليهود و هما أبو ياسر و أخوه حي حين سمعا من الأحرف المقطعة ( ألم ) و تأولاها على بيان المدة بهذا الحساب فبلغت إحدى و سبعين فاستقلا المدة و جاء حي إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسأله: هل مع هذا غيره ؟ فقال ( المص ) ثم استزاد ( الرثم ) ثم استزاد ( المر ) فكانت إحدى و سبعين و مائتين فاستطال المدة و قال: قد لبس علينا أمرك يا محمد حتى لا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ثم ذهبوا عنه و قال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة و أربع سنين قال ابن إسحاق فنزل قولة تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات. 1 هـ. و لا يقوم من القصة دليل على تقدير الملة بهذا العدد لأن دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعية و لا عقلية و إنما هي بالتواضع و الاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل نعم إنه قديم مشهور و قدم الاصطلاح لا يصير حجة و ليس أبو ياسر و أخوة حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً و لا من علماء اليهود لأنهم كانوا بادية بالحجاز غفلاً عن الصنائع و العلوم حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم و ملتهم و إنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك. و وقع في الملة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمد بن يحيى الذهبي عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد الليثي عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال قال حذيفة بن اليمان: و الله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم من قائد فئة إلى أن تنقضي الدنيا لا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه و اسم أبيه و قبيلته و سكت عليه أبو داود و قد تقدم أنه قال في رسالته ما سكته عليه في كتابه فهو صالح و هذا الحديث إذا كان صحيحاً فهو مجمل و يفتقر في بيان إجماله و تعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها. و قد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضاً قال: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيباً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه حفظه من حفظه و نسيه من نسيه قد علمه أصحابه هؤلاء و لفظ البخاري: ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره و في كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوماً صلاة العصر بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه و نسيه من نسيه و هذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن و الاشتراط لا غير لأنه المعهود من الشارع صلوات الله و سلامه عليه في أمثال هذه العمومات و هذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذه الطريق شاذة منكرة مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثه مناكير. و قال البخاري يعرف منه و ينكر و قال ابن عدي أحاديثه غير محفوظة و أسامة بن زيد و أن خرج له في الصحيحين و وثقه ابن معين فإنما خرج له البخاري استشهاداً و ضعفه يحيى بن سعيد و أحمد بن حنبل و قال ابن حاتم يكتب حديثه و لا يحتج به. و أبو قبيضة ابن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مر. و قد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر و يزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الآثار و النجوم لا يزيدون على ذلك و لا يعرفون أصل ذلك و لا مستنده و اعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هازون بن سعيد العجلي و هو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق و فيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم و لبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر و نظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة و الكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء و كان مكتوباً عند جعفر في جند ثور صغير فرواه عنه هارون العجلي و كتبه و سماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه لأن الجفر في اللغة هو الصغير و صار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم و كان فيه تفسير القرآن و ما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق. و هذا الكتاب لم تتصل روايته و لا عرف عينه و إنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل و لو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات و قد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصح كما يقول و قد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه و عصاه فخرج و قتل بالجوزجان كما هو معروف. و إذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً و ديناً و آثاراً من النؤة و عناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة و قد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد و في أخبار دولة العبيديين كثير منه و انظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي مع ابنه محمد الحبيب و ما حدثاه به و كيف بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب و بث الدعوة فيه على علمه لقنه أن دعوته تتم هناك و أن عبيد الله لما بنى المهدية بعد استفحال دولتهم بأفريقية قال: ( بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار ) و أراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالهدية و كان يسأل عن منتهى موقفه حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينه جده أبو عبيد الله فأيقن بالظفر و برز من البلد فهزمه و اتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به و قتله و مثل هذه الأخبار كثيرة.
و أما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية أما في الأمور العامة مثل الملك و الدول فمن القرانات و خصوصاً بين العلويين و ذلك أن العلويين زحل و المشتري يقترنان في كل عشرين سنة مرة ثم يعود القرآن إلى برج آخر في تلك المثلثة من التثليث الأيمن ثم بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروجه الثلاثة في ستين سنة ثم يعود فيستوي بها في ستين سنة ثم يعود ثالثة ثم رابعة فيستوي في المثلثة باثنتي عشرة مرة و أربع عودات في مائتين و أربعين سنة و يكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن و ينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القرآن الذي قبلة في المثلثة و هذا القرآن الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير و صغير و وسط فالكبير هو اجتماع العلويين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة و ستين سنة مرة واحدة و الوسط هو اقتران العلويين في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة و بعد مائتين و أربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى و الصغير هو اقتران العلويين في درجة برج و بعد عشرين سنة يقترنان في برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجه أو دقائقه مثال ذلك وقع القرآن يكون أول دقيقة من الحمل و بعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد و هذه كلها نارية و هذا كله قران صغير ثم يعود إلى أول الحمل بعد ستين سنة و يسمى دور القران و عود القران و بعد مائتين و أربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها و هذا قران وسط ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة و ستين سنة و هو الكبير و القران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك و الدولة و انتقال الملك من قوم إلى قوم و الوسط على ظهور المتغلبين و الطالبين للملك و الصغير على ظهور الخوارج والدعاة و خراب المدن أو عمرانها و يقع في أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة و يسمى الرابع و برج السرطان هو طالع العالم و فيه و بال زحل و هبوط المريخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن و الحروب و سفك الدماء و ظهور الخوارج و حركة العساكر و عصيان الجند و الوباء و القحط و يدوم ذلك أو ينتهي على قدر السعادة و النحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدليل فيه. قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك و رجوع المريخ إلى العرب له أثر عظيم في الملة الإسلامية لأنه كان دليلها فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء و كثر المرض في أهل العلم و الدين و نقصت أحوالهم و ربما انهدم بعض بيوت العبادة و قد يقال أنه كان عند قتل علي رضي الله عنه و مروان من بني أمية و المتوكل من بني العباس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام و ذكر شاذان البلخي: أن الملة تنتهي إلى ثلاثمائة و عشرين. و قد ظهر كذب هذا القول. و قال أبو معشر: يظهر بعد المائة و الخمسين منها اختلاف كثير و لم يصح ذلك. و قال خراشى: رأيت في كتب القدماء أن المنجمين أخبروا كسرى عن ملك العرب و ظهور النبؤة فيهم. و أن دليلهم الزهرة و كانت في شرفها فيبقى الملك فيهم أربعين سنة و قال أبو معشر في كتاب القرانات القسمة إذا انتهت إلى السابعة و العشرين من الحوت فيها شرف الزهرة و وقع القران مع ذلك ببرج العقرب و هو دليل الرب ظهرت حينئذ دولة العرب و كان منهم نبي و يكون قوة ملكه و مدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة و هي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت و مدة ذلك ستمائة و عشر سنين و كان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة و وقوع القسمة أول الحمل و صاحب الجد المشتري. و قال يعقوب بن إسحاق الكندي أن مدة الملة تنتهي إلى ستمائة و ثلاثاً و تسعين سنة. قال: لأن الزهرة كانت عند قران الملة في ثمان و عشرين درجة و ثلاثين دقيقة من الحوت فالباقي إحدى عشرة درجة و ثمان عشرة دقيقة و دقائقها ستون فيكون ستمائة و ثلاثاً و تسعين سنة. قال: و هذه مدة الملة باتفاق الحكماء و يعضده الحروف الواقعة في أول السور بحذف المكرر و اعتبار بحساب الجمل. قلت و هذا هو الذي ذكره السهيلي و الغالب أن الأول هو مستند السهيلي فيما نقلناه عنه. قال خراش: سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدة أردشير و ولده ملوك الساسانية فقال: دليل ملكه المشتري و كان في شرفه فيعطى أطول السنين و أجودها أربعمائة و سبعاً و عشرين سنة ثم تزيد الزهرة و تكون في شرفها و هي دليل العرب فيملكون لأن طالع القران الميزان و صاحبه الزهرة و كانت عند القران في شرفها مدة انهم يملكون ألف سنة و ستين سنة. و سأل كسرى أنوشروان وزيره بزر جمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره أن القائم منهم يولد لخمس و أربعين من دولته و يملك المشرق و المغرب و المشتري يغوص إلى الزهرة و ينتقل القران من الهوائية إلى العقرب و هو مائي و هو دليل العرب فهذه الأدلة تفضي للملة بمدة دور الزهرة و هي ألف و ستون سنة. و سأل كسرى الوزير أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزر جمهر. و قال توفيل الرومي المنجم في أيام بني أمية: أن ملة الإسلام تبقى مدة القران الكبير تسعمائة و ستين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة و تغير وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملة فحينئذ إما أن يفتر العمل به أو يتجدد من الأحكام ما يوجب خلاف الفن. قال خراش: و اتفقوا على أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء و النار حتى تهلك سائر المكونات و ذلك عندما يقطع قلب الأسد أربعاً و عشرين درجة و هي حد المريخ، و ذلك بعد مضي تسعمائة و ستين سنة. و ذكر خراش: أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هدية و أنه تصرف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه و بعقد اللواء لطاهر و أن المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه و اتصاله في ولد أخيه و أن العجم يتغلبون على الخلافة من الديلم في دولة سنة خمسين و يكون ما يريده الله ثم يسوء حالهم ثم تظهر الترك من شمالي المشرق فيملكون إلى الشام و الفرات و سيحون و سيملكون بلاد الروم و يكون ما يريده الله فقال له المأمون: من أين لك هذا ؟ فقال: من كتب الحكماء و من أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج. قلت و الترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية و قد انقضت دولتهم أول القرن السابع. قال خراش: و انتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث و ثلاثين و ثمانمائة ليزدجرد و بعدها إلى برج العقرب حيث كان قران المئة سنة ثلاث و خمسين. قال: و الذي في الحوت هو أول الانتقال و الذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملة. قال: و تحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان و ستين و ثمانمائة و لم يستوف الكلام على ذلك. و أما مستند المنجمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط و هيئة الفلك عند وقوعه لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة و جهاتها من العمران و القائمين بها من الأمم و عدد ملوكهم و أسمائهم و أعمارهم و نحلهم و أديانهم و عوائدهم و حروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات و قد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالاً عليه فمن يوجد الكلام في الدول و قد كان يعقوب بن إسحاق الكندي منجم الرشيد و المأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه الشيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق و ذكر فيه فيما يقال حدثان: دولة بني العباس و أنها نهايته و أشار إلى انقراضها و الحادثة على بغداد أنها تقع في انتصاف المائة السابعة و أنه بانقراضها يكون انقراض الملة و لم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب و لا رأينا من وقف عليه و لعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد و قتل المستعصم آخر الخلفاء و قد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير و الظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل و مطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه و كذب ما بعده و كان في دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون و كتب في الحدثان و انظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة قال بعث إلي الربيع و الحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه فجئتهما جوف الليل فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان و إذا مدة المهدي فيه عشر سينين فقلت: هذا الكتاب لا يخفى على المهدي و قد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه. قالا فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل و قلت له انسخ هذه الورقة و اكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة و الأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوماً و منثوراً و رجزاً ما شاء الله أن يكتبوه و بأيدي الناس متفرقة كثير منها و تسمى الملاحم. و بعضها في حدثان الملة على العموم و بعضها في دولة على الخصوص و كلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة و ليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء و هي متداولة بين الناس و تحسب العامة أنها من الحدثان العام فيطلقون الكثير منها على الحاضر و المستقبل و الذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونه لأن الرجل كان قبيل دولتهم و ذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود و ملكهم لعدوة الأندلس و من الملاحم بيد أهل المغرب أيضاً قصيدة تسمى التبعية أولها:
طربت و ما ذاك مني طرب و قد يطرب الطائر المغتصب
و ما ذاك مني للهو أراه و لكن لتذكار بعض السبب
قريباً من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين و أشار فيها إلى الفاطمي و غيره و الظاهر أنها مصنوعة و من الملاحم بالمغرب أيضاً ملعبة من الشعر الزجلي منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويين و النحسين و غيرهما و ذكر ميتته قتيلاً بفاس و كان كذلك فيما زعموه و أوله:
في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا      فافهموا يا قوم هذي الاشارا
نجم زحل اخبر بذي العلاما و بدل الشكلا و هي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما و شاش أزرق بدل الغرارا
يقول في آخره
قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي      يصلب في بلدة فاس في يوم عيد
حتى يجيه الناس من البوادي      و قتله يا قوم على الفراد
و أبياته نحو الخمسمائة و هي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين و من ملاحم المغرب أيضاً قصيدة من عروض المتقارب على روي الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين منسوبة لابن الأبار. و قال لي قاضي قسنطينية الخطيب الكبير أبو علي بن باديس و كان بصيراً بما يقوله و له قدم في التنجيم فقال لي: أن هذا ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر و إنما هو رجل خياط من أهلي تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ و كان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة و بقي بعضها في حفظي مطلعها:
عذيري من زمن قلب      يغز ببارقه الأشنب
و منها.
و يبعث من جيشه قائداً       و يبقى هناك على مرقب
فتأتي إلى الشيخ أخباره فيقبل كالجمل الأجرب
و يظهر من عدله سيرة و تلك سياسة مستجلب
و منها في ذكر أحوال تونس على العموم.
فأما رأيت الرسوم امحت      و لم يرع حق لذي منصب
فخذ في الترحل عن تونس      وودع معالمها و اذهب
فسوف تكون بها فتنة       تضيف البريء إلى المذنب
و وقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس
فيها بعد السلطات أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذكر محمد أخيه من بعده
يقول فيها:
و بعد أبي عبد الإله شقيقه       و يعرف بالوثاب في نسخة الأصل
إلا أن هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه و كان يمني بذلك نفسه إلى أن هلك
و من الملاحم في المغرب أيضاً الملعبة المنسوبة إلى الهوثني على لغة العامة في عروض البلد:
دعني بدمعي الهتان       فترت الأمطار و لم تفتر
و استقت كلها الويدان       و انى تملى و تغدر
البلاد كلما تروي       فأولى ما ميل ما تدري
ما بين الصيف و الشتوي       و العام و الربيع تجري
قال حين صحت الدعوى:       دعنى نبكي و من عذر
أنادي من ذي الأزمان       ذا القرن اشتد و تمري
و هي طويلة و محفوظة بين عامة المغرب الأقصى و الغالب عليها الوضع
لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصة و وقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لأبي العربي الحاتمي في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلا الله لتحلله إلى أوفاق عددية و رموز ملغوزة و أشكال حيوانات تامه و رؤوس مقطعة و تماثيل من حيوانات غريبة. و في آخرها قصيدة على روي اللام و الغالب أنها كلها غير صحيحة لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة و لا غيرها و سمعت أيضاً أن هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سيناء و ابن عقاب و ليس في شيء معها دليل على الصحة لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات و وقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجر بقي و كلها إلغاز بالحروف أولها.
إن شئت تكسف سر الجفر يا سائلي       من علم جفر و صي والد الحسن
فافهم و كن و اعياً حرفاً و جملته       و الوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن
أما الذي قبل عصري لست أذكره       لكنني أذكر الآتي من الزمن
يشهر بيبرس يبقى بعد خمستها       بحاء ميم بطيش نام في الكنن
شين له أثر من تحت سرته       له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر و الشام مع أرض العراق له       و أذربيجان في ملك إلى اليمن
و منها:
و آل بوران لما نال طاهرهم       الفاتك الباتك المعني بالسمن
لخلع سين ضعيف السن سين أتى       لا لو فاق و نوت ذي قرن
قوم شجاع له عقل و مشورة       يبقى بحاء و أين بعد ذو سمن
و منها:
من بعد باء من الأعوام قتلته       يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن
و منها:
هذا هو الأعرج الكلبي فاعن به       في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدمهم       عار عن القاف قاف جد بالفتن
بقتل دال و مثل الشام أجمعها       أبدت بشجو على الأهلين و الوطن
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر مـ       ن الزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء و ظاء و عين كلهم حبسوا       هلكاً و ينفق أموالاً بلا ثمن
يسير القاف قافاً عند جمعهم       هون به إن ذاك الحصن في سكن
و ينصبون أخاه و هو صالحهم       لا سلم الألف سين لذاك بني
تمت ولايتهم بالحاء لا أحد       من السنين يداني الملك في الزمن
و يقال أنه أشار إلى الملك الظاهر و قدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هجرته       و طول غيبته و الشطف و الزرن
و أبياتها كثيرة و الغالب أنها موضوعة و مثل صنعتها كان في القديم كثير و معروف للانتحال.
حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدانالي يبل الأوراق و يكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة و يشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة و الجاه كأنها ملاحم و يحصل على ما يريده منهم من الدنيا و أنه وضع في بعض دفاتره ميماً مكررة ثلاث مرات و جاء به إلى مفلح مولى المقتدر. فقال له هذا كناية عنك و هو مفلح مولى المقتدر و ذكر عنه ما يرضاه و يناله من الدولة و نصب لذلك علامات يموه بها عليه فبدل له ما أغناه به ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا و كان معزولاً فجاءه بأوراق مثلها و ذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف و بعلامات ذكرها و أنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء و تستقيم الأمور على يديه و يقهر الأعداء و يغير الدنيا في أيامه و أوقف مفلحاً هذا على الأوراق و ذكر فيها كوائن أخرى و ملاحم من هذا النوع مما وقع و مما لم يقع و نسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح. و وقف عليه المقتدر و اهتدى من تلك الأمور و العلامات إلى ابن وهب و كان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب و الجهل بمثل هذه الألغاز و الظاهر أن هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجربقي من هذا النوع و لقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة و عن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية و هو الباجربقي و كان عارفاً بطرائقهم فقال كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية و كان يتحدث عما يكون بطريق الكشف و يومي إلى رجال معينين عنده و يلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم و ربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه و ولع الناس بها و جعلوها ملحمة مرموزة و زاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر و شغل العامة بفك رموزها و هو أمر ممتنع إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله و يوضع له و أما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزوه فرأيت من كلام هذا الرجل الفاصل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان و الأمصار و سائر العمران و ما يعرض في ذلك من الأحوال و فيه سوابق و لواحق ـ الفصل الأول في أن الدول من المدن و الأمصار و أنها إنما توجد ثانية عن الملك
و بيانه أن البناء و اختطاط المنازل إنما من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف و الدعة كما قدمناه و ذلك متأخر عن البداوة و منازعها و أيضاً فالمدن و الأمصار ذات هياكل و أجرام عظيمة و بناء كبير و هي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي و كثرة التعاون و ليست من الأمور الضرورية للناس التي تعم بها البلوى حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً بل لا بد من إكراههم على ذلك و سوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغبين في الثواب و الأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك و الدولة. فلا بد في تمصير الأمصار و اختطاط المدن من الدولة و الملك. ثم إذا بنيت المدينة و كمل تشييدها بحسب نظر من شيدها و بما اقتضته الأحوال السماوية و الأرضية فيها فعمر الدولة حينئذ عمر لها فإن كان عمر الدولة قصيراً وقف الحل فيها عند انتهاء الدولة و تراجع عمرانها و خربت و إن كان أمد الدولة طويلاً و مدتها منفسحة فلاتزال المصانع فيها تشاد و المنازل الرحيبة تكثر و تتعدد و نطاق الأسواق يتباعد و ينفسح إلى أن تسمع الخطة و تبعد المسافة و ينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد و أمثالها. ذكر الخطيب في تأريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة و ستين ألف حمام و كانت مشتملة على مدن و أمصار متلاصقة و متقاربة تجاوز الأربعين و لم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران و كذا حال القيروان و قرطبة و المهدية في الملة الإسلامية و حال مصر القاهرة بعدها فيما بلغنا لهذا العهد و أما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة و ما قاربها من الجبال و البسائط بادية يمدها العمران دائماً فيكون ذلك حافظاً لوجودها و يستمر عمرها بعد الدولة كما تراه بفاس و بجاية من المغرب و بعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه و الكسب تدعو إلى الدعة و السكون الذي في طبيعة البشر فينزلون المدن و الأمصار و يتأهلون و أما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدرها فيكون انقراض الدولة خرقاً لسياجها فيزول حفظها و يتناقص عمرانها شيئاً فشيئاً إلى أن يبذعر ساكنها و تخرب كما و قع بمصر و بغداد و الكوفة بالمشرق و القيروان و المهدية و قلعة بني حماد بالمغرب و أمثالها فتفهمه و ربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر و دولة ثانية يتخذها قراراً و كرسياً يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها فتحفظ تلك الدولة سياجها و تتزايد مبانيها و مصانعها بتزايد أحوال الدولة الثانية و ترفها و تستجد بعمرانها عمراً آخر كما وقع بفاس و القاهرة لهذا العهد و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار
و ذلك أن القبائل و العصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للإستيلاء على الأمصار لأمرين أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدعة و الراحة و حط الأثقال و استكمال ما كان ناقصاً من أمور العمران في البدو و الثاني دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين و المشاغبين لأن المصر الذي يكون في نواحيهم ربما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم و الخروج عليهم و انتزاع ذلك الملك الذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر و يغالبهم و مغالبة المصر على نهاية من الصعوبة و المشقة و المصر يقوم مقام العساكر المتعددة لما فيه من الإمتناع و نكاية الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد و لا عظيم شوكة لأن الشوكة و العصابة إنما احتيج إليهما في الحرب للثبات لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة و ثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرون إلى كبير عصابة و لا عدد فيكون حال هذا الحصن و من يعتصم به من المنازعين مما يفت عضد الأمة التي تروم الاستيلاء و يخضد شوكة استيلائها فإذا كانت بين أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الانخرام و إن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أولاً و حط أثقالهم و ليكون شجاً في حلق من يروم العزة و الامتناع عليهم من طوائفهم و عصائبهم فتعين أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار و الاستيلاء عليها و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل الثالث في أن المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير
قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني و غيرها و أنها تكون على نسبتها و ذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة و كثرتهم و تعاونهم فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها و جمعت أيديهم على عملها و ربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوي و القدر في حمل أثقال البناء لعجز القوة البشرية و ضعفها عن ذلك كالمخال و غيره و ربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين و مصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى و أهرام مصر و حنايا المعلقة و شرشال بالمغرب إنما كانت بقدرهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها و قدرها لتناسب بينها و بين القدر التي صدرت تلك المباني عنها و يغفل عن شأن الهندام و المخال و ما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية و كثير من المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء و استعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عياناً و أكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عاديةً نسبةً إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد و مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم و تضاعف قدرهم. و ليس كذلك، فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم و هي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى و مباني العبيديين من الشيعة بأفريقية و الصنهاجيين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد و كذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان و بناء الموحدين في رباط الفتح و رباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان و كذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة لهذا العهد و غير ذلك من المباني و الهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً و بعيداً و تيقناً أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم و إنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد و ثمود و العمالقة. و نجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد و قد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي في أكثر السنين و يشاهدونها لا تزيد في جوها و مساحتها و سمكها على المتعاهد و إنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتى أنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السمك من البحر طريئاً فيشويه في الشمس يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها و لا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض و الهواء و أما الشمس في نفسها فغير حارة و لا باردة و إنما هي كوكب مضيىء لا مزاج له و قد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة كل قوتها في أصلها. و الله يخلق ما يشاء و يحكم ما يريد.

الفصل الرابع في أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة
و السبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون و مضاعفة القدر البشرية و قد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم.
فيبتدئ الأول منهم بالبناء، و يعقبه الثاني و الثالث، و كل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة و جمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك و يكمل و يكون ماثلاً للعيان يظنه من يراه من الآخرين أنه بناء دولة واحدة. و انظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب و أن الذي بناه سبأ بن يشخب و ساق إليه سبعين وادياً و عاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده و مثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة و قناتها الراكبة على الحنايا العادية و أكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها و يشهد لذلك أن المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها و تأسيسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها و لم يكمل القصد فيها. و يشهد لذلك أيضاً أنا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها و تخريبها مع أن الهدم أيسر من البناء بكثير لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم و البناء على خلاف الأصل.
فإذا وجدنا بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة و أنها ليست أثر دولة واحدة و هذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه و بعث إلى يحيى بن خالد و هو في محبسه يستشيره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل و اتركه ماثلاً يستدل به على عظم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتهمه في النصيحة و قال أخذته النعرة للعجم و الله لأصر عنه و شرع في هدمه و جمع الأيدي عليه و اتخذ له الفؤس و حماه بالنار و صب عليه الخل حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانياً في التجافي عن الهدم فقال لا تفعل و استمر على ذلك لئلا يقال عجز أمير المؤمنين و ملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فرفعها الرشيد و أقصر عن هدمه و كذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر و جمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل و شرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط و الظاهر و ما بعده من الحيطان و هنالك كان منتهى هدمهم و هو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر و يزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان والله أعلم. و كذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم أو تستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيام العديدة و لا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق و تجتمع له المحافل المشهورة شهدت منها في أيام صباي كثيراً والله خلقكم وما تعملون.

الفصل الخامس فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن و ما يحدث إذا غفل عن المراعاة
إعلم أن المدن قرار يتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف و دواعيه فتؤثر الدعة و السكون و تتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار و لما كان ذلك القرار و المأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها و جلب المنافع و تسهيل المرافق لها فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار و أن يكون وضع ذلك في تمنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل و إما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو و يتضاعف امتناعها و حصنها. و مما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة و هذا مشاهد. و المدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. و قد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بأفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. و لقد يقال أن ذلك حادث فيها و لم تكن كذلك من قبل و نقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه أناء من نحاس مختوم بالرصاص. فلما فض ختامه صعد منه دخان إلى الجو و انقطع. و كان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه و أراد بذلك أن الإناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلمسات لوبائه و أنه ذهب سره بذهابه فرجع إليها العغن و الوباء و هذه الحكاية من مذاهب العامة و مباحثهم الركيكة و البكري لم يكن من نباهة العلم و استنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرفه فنقله كما سمعه. و الذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام و أمراض الحميات ركودها. فإذا تخللتها الريح و تفشت و ذهبت بها يميناً و شمالاً خف شأن العفن و المرض البادي منها للحيوانات. و البلد إذا كان كثير الساكن و كثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة و تحدث الريح المتخللة للهواء الراكد و يكون ذلك معيناً له على الحركة و التموج و إذا خف الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته و تموجه و بقي ساكناً راكداً و عظم عفنه و كثر ضرره. و بلد قابس هذه كانت عندما كانت أفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً فكان ذلك معيناً على تموج الهواء و اضطرابه و تخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن و لا مرض، وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن و المرض. فهذا و جهه لا غير. و قد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت و لم يراع فيها طيب الهواء و كانت أولاً قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة فلما كثر سكانها انتقل حالها عن ذلك و هذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد و كثير من ذلك في العالم فتفهمه تجد ما قلته لك. و أما جلب المنافع و المرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكني حاجة الماء و هي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. و مما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دوجن الحيوان للنتاج و الضرع و الركوب و لا بد لها من المرعى فإذا كان قريباً طيباً كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقة في بعده و مما راعى أيضاً المزارع فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه و أقرب في تحصيله و من ذلك الشجر للحطب و البناء فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقوب النيران للاصطلاء و الطبخ. و الخشب أيضاً ضروري لسقفهم و كثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم و قد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول و هذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات و ما تدعو إليه ضرورة الساكن. و قد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه و قومه، و لا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق و أفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل و ما يصلح لها من الشجر و الماء الملح و لم يراعوا الماء و لا المزارع و لا الحطب و لا مراعي السائمة من ذوات الظلف و لا غير ذلك كالقيروان و الكوفة و البصرة و أمثالها و لهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.
و مما يراعى في البلاد إلى الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد تكون صريخاً للمدينة متى طرقها. طارق من العدو و السبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر و لم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات و لا موضعها متوعر من الجبل كانت في غرة للبيات و سهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها و تحيفه لها لما يأمن من وجود الصريخ لها. و أن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً و خرجوا عن حكم المقاتلة. و هذه كالإسكندرية من المشرق و طرابلس من المغرب و بونة و سلا.
و متى كانت القبائل و العصائب موطنين بقربها بحيث يبلغهم الصريخ و النعير و كانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال و على أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدو و يئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها و ما يتوقعونه من إجابة صريخها كما في سبتة و بجاية و بلد القل على صغرها فافهم ذلك و اعتبره في اختصاص الإسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مع أن الدعوة من ورائها ببرقة و أفريقية. و إنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها و لذلك و الله أعلم كان طروق العدو للاسكندرية و طرابلس في الملة مرات متعددة و الله تعالى أعلم.

الفصل السادس في المساجد و البيوت العظيمة في العالم
إعلم أن الله سبحانه و تعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه و جعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب و ينمو بها الأجور و أخبرنا بذلك على ألسن رسله و أنبيائه لطفاً بعباده و تسهيلاً لطرق السعادة لهم. و كانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين و هي مكة و المدينة و بيت المقدس. أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله و سلامه عليه. أمره الله ببنائه و أن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو و ابنه إسماعيل كما نصه القرآن و قام بما أمره الله فيه و سكن إسماعيل به مع هاجر و من نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله و دفنا بالحجر منه. و بيت المقدس بناه داوود و سليمان عليهما السلام. أمرهما الله ببناء مسجده و نصب هياكله و دفن كثير من الانبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه. و المدينة فهاجر نبينا محمد صلوات الله و سلامة عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها و إقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها و كان ملحده الشريف في تربتها فبهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين و مهوى أفئدتهم و عظمة دينهم و في الآثار من فضلها و مضاعفة الثواب في مجاورتها و الصلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة و كيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم. فأما مكة فأوليتها فيما يقال أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك و ليس فيه خبر صحيح يعول عليه. و إنما اقتبسوه من محمل الآية في قوله و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ثم بعث الله إبراهيم و كان من شأنه و شأن زوجته سارة و غيرتها من هاجر ما هو معروف و أوحى الله إليه أن يترك ابنه اسماعيل و أمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت و سار عنهما و كيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم و مرور الرفقة من جرهم بها حتى احتملوهما و سكنوا إليهم كما و نزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه و أدار عليه سياجاً من الردم و جعله زرباً لغنمه و جاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه و استعان فيه بابنه إسماعيل و دعا الناس إلى حجه و بقي إسماعيل ساكناً به و لما قبضت أمه هاجر و قام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثم العماليق من بعدهم و استمر الحال على ذلك و الناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل و لا من غيرهم ممن دنا أو نأى فقد نقل أن التبابعة كانت تحج البيت وتعظمه و أن تبعاً كساها الملاء و الوصائل و أمر بتطهيرها و جعل لها مفتاحاً.
و نقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه و تقرب إليه و أن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتقر زمزم كانا من قرابينهم. و لم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة و أقاموا بها بعدهم ما شاء الله. ثم كثر ولد إسماعيل و انتشروا و تشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش و غيرهم و ساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره و أخرجوهم من البيت و ملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت و سقفه بخشب الدوم و جريد النخل و قال الأعشى:
خلفت بثوبي راهب الدور و التي       بناها قصي و المضاض بن جرهم
ثم أصاب البيت سيل و يقال حريق و تهدم و أعادوا بناءه و جمعوا النفقة لذلك من أموالهم و انكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف و كانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعاً و كان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول و قصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده و تركوا منه ست أذرع و شبراً أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه و هو الحجر و بقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه و زحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني. و رمى البيت سنة أربع و ستين فأصابه حريق، يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه فهدمه ابن الزبير فأعاد بناءه أحسن مما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه. و احتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة رضي الله عنها، لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم و لجعلت له بابين شرقياً و غربياً فهدمه و كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام و جمع الوجوه و الأكابر حتى عاينوه و أشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب و نصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة و بعث إلى صنعاء في الفضة و الكلس فحملها. وسأل عن مقطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام و رفع في جدرانها سبعاً و عشرين ذراعاً و جعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه و جعل فرشها و إزرها بالرخام و صاغ لها المفاتيح و صفائح الأبواب من الذهب. ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك و رمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانها. ثم لما ظفر بابن الزبير شاور عبد الملك فيما بناه و زاده في البيت فأمره بهدمه و رد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. و يقال: أنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة، و قال وددت أني كنت حملت أبا حبيب في أمر البيت و بنائه ما تحمل. فهدم الحجاج منها ست أذرع و شبراً مكان الحجر و بناها على أساس قريش و سد الباب الغربي و ما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي. و ترك سائرها لم يغير منه شيئاً فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير و بناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين. و البناء متميز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصدع و قد لحم.
و يعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف و يحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدر إنما قامت على بعض الأساس و ترك بعضه و هو مكان الشاذروان و كذا قالوا في تقبيل الحجر السود لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت و إذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير و هو إنما بني على أساس ابراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه و لا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين أحدهما أن يكون الحجاج هدم جميعه و أعاده و قد نقل ذلك جماعة إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين و تمييز أحد الشقين من أعلاه على الآخر في الصناعة يرد ذلك و أما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته و إنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزنير ليست على قواعد إبراهيم و هذا بعيد و لا محيص من هذين و الله تعالى اعلم. ثم أن مساحة البيت و هو المسجد كان فضاء للطائفين و لم يكن عليه جدر أيام النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر من بعده. ثم كثر الناس فاشترى عمر رضي الله عنه دوراً هدمها و زادها في المسجد و أدار عليها جداراً دون القامة و فعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك و بناه بعمد الرخام ثم زاد فيه المنصور و ابنه المهدي من بعده و وقفت الزيادة و استقرت على ذلك لعهدنا.
و تشريف الله لهذا البيت و عنايته به أكثر من أن يحاط به و كفى بذلك أن جعله مهبطاً للوحي و الملائكة و مكاناً للعبادة و فرض شرائع الحج و مناسكه و أوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم و الحق ما لم يوجبه لغير فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم و أوجب على دخله أن يتجرد من المحيط إلا أزاراً يستره و حمى العائذ به و الراتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف و لا يصاد له وحش و لا يحتطب له شجر. و حد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم و من طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع و من طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة و من طريق جدة سبعه أميال إلى منقطع العشائر. هذا شأن مكة و خبرها و تسمى أم القرى و تسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب. و يقال لها أيضاً بكة قال الأصمعي، لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع و قال مجاهد باء بكة أبدلوها ميماً كما قالوا لازب و لازم لقرب المخرجين. و قال النخعي بالباء و بالميم البلد و قال الزهري بالباء للمسجد كله و بالميم للحرم و قد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه و الملوك تبعث إليه بالأموال و الذخائر مثل كسرى و غيره و قصة الأسياف و غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة و قد وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار، وزناً و قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك. فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه. هكذا قال الأزرقي. و في البخاري يسنده إلى أبي وائل قال:
جلست إلى شيبة بن عثمان و قال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء و لا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: و لم ؟ قلت: فلم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدى بهما. و خرجه أبو داود و ابن ماجة و أقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس و هو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع و تسعين و مائة حين غلب مكة عمد إلى الكعبة فأخذ مافي خزائنها و قال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا و أخرجه و تصرف فيه و بطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ. و أما بيت المقدس و هو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضع الزهرة و كانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه يصبونه على الصخرة التي هناك ثم دثر ذلك الهيكل و اتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. و ذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل و أباه إسحق من قبله و أقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي و مقدارها و صفتها و هياكلها و تماثيلها و أن يكون فيها التابوت و مائدة بصحافها و منارة بقناديلها و أن يصنع مذبحاً للقربان وصف ذلك كأنه في التوراة أكمل وصف فصنع القبة و وضع فيها تابوت العهد و هو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت و وضع المذبح عندها. و عهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان و نصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها و يتقربون في المذبح أمامها و يتعرضون للوحي عندها.
و لما ملكوا أرض الشام أنزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين و بني أفراييم. و بقيت هنالك أربع عشرة سنة سبعاً مدة الحرب، و سبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد. و لما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال، و أداروا عليها الحيطان. و أقامت على ذلك ثلثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر، و تغلبوا عليهم. ثم ردوا عليهم القبة و نقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين. و لما ملك داوود عليه السلام نقل القبة و التابوت إلى بيت المقدس و جعل عليها خباء خاصاً و وضعها على الصخرة.
و بقيت تلك القبة قبلتهم و وضعوها على الصخرة ببيت المقدس و أراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك و عهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه و لخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام.
و أتخذ عمده من الصفر و جعل به صرح الزجاج و غشى أبوابه و حيطانه بالذهب و صاغ هياكله و تماثيله و أوعيته و منارته و مفتاحه من الذهب و جعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد و هو التابوت الذي فيه الألواح و جاء به من صهيون بلد أبيه داوود نقله إليه أيام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط و الكهنوتية حتى وضعه في القبر و وضعت القبة و الأوعية و المذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد. و أقام كذلك ما شاء الله. ثم خربه بخت نصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه و أحرق التوراة و العصا و صاغ الهياكل و نثر الأحجار. ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبنى إسرائيل عليه من سبي بخت نصر و حد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داوود عليهما السلام فلم يتجارزوها.
و أما الأواوين التي تحت المسجد، يركب بعضها بعضاً، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. و يتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام، و ليس كذلك. لو إنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة، لأن النجاسات في شريعتهم و إن كانت في باطن الأرض و كان ما بينها و بين ظاهر الأرض محشواً بالتراب، بحيث يصل ما بينها و بين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم. و المتوهم عندهم كالمحقق.
فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها و ينقطع خطه، فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم. و تنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة و التقديس.
ثم تداونتهم ملوك يونان الفرس و الروم و استفحل الملك لبني اسرائيل في هذه المدة ثم لبني حشمناي من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودس و لبنيه من بعد.
و بنى هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام و تأنق فيه حتى أكمله في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الروم و غلبهم و ملك أمرهم خرب بيت المقدس و مسجدها و أمر أن يزرع مكانه ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام و دانوا بتعظيمه ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارةً و تركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين و تنصرت أمه هيلانة و ارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنه رمى بخشبته على الأرض و ألقى عليها القمامات و القاذورات فاستخرجت الخشبة و بنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم و هربت ما وجدت من عمارة البيت و أمرت بطرح الزبل و القمامات على الصخرة حتى غطاها و خفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم و هو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام و بقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام و حضر عمر لفتح بيت المقدس و سأل عن الصخرة فأري مكانها و قد علاها الزبل و التراب فكشف عنها و بنى عليها مسجداً على طريق البداوة و عظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه و ما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام و في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة و في مسجد دمشق و كانت العرب تسميه بلاط الوليد و ألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة و المال لبناء هذه المساجد و أن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك و تم بناؤها على ما اقترحه. ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهر من الشيعة و اختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه و ملكوا معه عامة ثغور الشام و بنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها و يفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين بن أيوب الكردي بملك مصر و الشام و محا أثر العبيديين و بدعهم زحف إلى الشام و جاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس و على ما كانوا ملكوه من ثغور الشام و ذلك لنحو ثمانين و خمسمائة من الهجرة و هدم تلك الكنيسة و أظهر الصخرة و بني المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد.
و لا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن أول بيت وضع فقال: بين مكة و بين بناء بيت المقدس قيل فكم بينهما ؟ قال أربعون سنة فإن المدة بين بناء مكة و بين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم و سليمان لأن سليمان بانيه و هو ينيف على الألف بكثير. و أعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء و إنما المراد أول بيت عين للعبادة و لا يبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة و قد نقل أن الصابئه بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك أنها كانت مكاناً للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام و التماثيل حوالي الكعبة و في جوفها و الصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مدة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة و وضع بيت المقدس و إن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف و أن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام فتفهمه ففيه حل هذا الإشكال. و أما المدينة و هي المسماة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة و ملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثم جاورهم بنو قيلة من غسان و غلبوهم عليها و على حصونها. ثم أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها و معه أبو بكر و تبعه أصحابه و نزل بها و بنى مسجده و بيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك و شرفه في سابق أزله و أواه أبناء قيلة و نصروه فلذلك سموا الأنصار و تمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات و غلب على قومه و فتح مكة و ملكها و ظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده فأهمهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبرهم انه غير متحول حتى إذا قبض صلى الله عليه و سلم كان ملحده الشريف بها و جاء في فضلها من الأحاديث الصحيحة مالا خفاء به و وقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة و به قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رفيع بن مخدج أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المدينة خير من مكة نقل ذلك أبو الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك و خالف أبو حنيفة و الشافعي. و أصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام و جنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله لها و تفهم سر الله في الكون و تدريجه على ترتيب محكم في أمور الدين و الدنيا. و أما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه و قد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم منها بيوت النار للفرس و هياكل يونان و بيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بهدمها في غزواته و قد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة و لا هي على طريق ديني و لا يلتفت إليها و لا إلى الخبر عنها و يكفي في ذلك ما وقع في التواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها و الله يهدي من يشاء سبحانه.

الفصل السابع في أن المدن و الأمصار بإفريقية و المغرب قليلة
و السبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السنين قبل الإسلام و كان عمرانها كله بدوياً و لم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحوالها و الدول التي ملكتهم من الإفرنجة و العرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتى ترسخ الحضارة منها فلم تزل عوائد البداوة و شؤونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم و أيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو و الصنائع من توابع الحضارة و إنما تتم المباني بها فلا بد من الحذق في تعلمها فلما لم يكن للبربر انتحال لها لم يكن لهم تشوق إلى المباني فضلاً عن المدن. و أيضاً فهم أهل عصبيات و أنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم و الأنساب و العصبية أجنح إلى البدو و إنما يدعو إلى المدن الدعة و السكون و يصير ساكنها عيالاً على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها فلا يدعو إلى ذلك إلا الترف و الغنى و قليل ما هو في الناس فلذلك كان عمران أفريقية و المغرب كله أو أكثره بدوياً أهل خيام و ظواعن و قياطن و كنن في الجبال و كان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى و أمصاراً و رساتيق من بلاد الأندلس و الشام و مصر و عراق العجم و أمثالها لأن العجم ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها و يتباهون في صراحتها و التحامها إلا في الأقل و أكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأن لحمة النسب أقرب و أشد فتكون عصبيته كذلك و تنزع بصاحبها إلى سكنى البدو و التجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة و يصيره عيالاً على غيره فأفهمه و قسى عليه و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثامن في أن المباني و المصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها و إلى من كان قبلها من الدول
و السبب في ذلك ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضاً أعرق في البدو و أبعد عن الصنائع و أيضاً فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام و لما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم و أيضاً فكان الدين أول الأمر مانعاً من المغالاة أو البنيان و الإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة و قد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل فقال افعلوا و لا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات و لا تطاولوا في البنيان و ألزموا السنة تلزمكم الدولة و عهد إلى الوفد و تقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنياناً فوق القدر قالوا: و ما القدر ؟ قال: لا يقربكم من السرف و لا يخرجكم عن القصد فلما بعد العهد بالدين و التخرج في أمثال هذه المقاصد و غلبت طبيعة الملك و الترف و استقدم العرب أمة الفرس و أخذوا عنهم الصنائع و المباني و دعتهم إليها أحوال الدعة و الترف فحينئذ شيدوا المباني و المصانع و كان عهد ذلك قريباً بانقراض الدولة و لم ينفسح الأمد لكثرة البناء و اختطاط المدن و الأمصار إلا قليلاً و ليس كذلك غيرهم من الأمم فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين و كذلك القبط و النبط و الروم و كذلك العرب الأولى من عاد و ثمود و العمالقة و التبابعة طالت أمادهم و رسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم و هياكلهم أكثر عدداً و أبقى على الأيام أثراً و استبصر في هذا تجده كما قلت و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل
و السبب في ذلك شأن البداوة و البعد عن الصنائع كما قدمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها و له و الله أعلم وجه آخر و هو أمس به و ذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان و طيب الهواء. و المياه و المزارع و المراعي فإنه بالتفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر و رداءته من حيث العمران الطبيعي و العرب بمعزل عن هذا و إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة لا يبالون بالماء طاب أو خبث و لا قل أو كثر و لا يسألون عن زكاء المزارع و المنابت و الأهوية لانتقالهم في الأرض و نقلهم الحبوب من البلد البعيد و أما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها و الظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار و السكنى و كثرة الفضلات و انظر لما اختطوا الكوفة و البصرة و القيروان كيف لم يراعوا في اختطاها إلا مراعي إبلهم و ما يقرب من القفر و مسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي، للمدن و لم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم كما قدمنا أنه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار و لم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس فلأول وهلة من انحلال أمرهم و ذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها أتى عليها الخراب و الانحلال كأن لم تكن. و الله يحكم لا معقب لحكمه.

الفصل العاشر في مبادي الخراب في الأمصار
إعلم أن الأمصار إذا اختطت أولاً تكون قليلة المساكن و قليلة آلات البناء من الحجر و الجير و غيرهما مما يعالى على الحيطان عند التأنق كالزلج و الرخام و الربج و الزجاج و الفسيفساء و الصدف فيكون بناؤها يؤمئذ بدوياً و آلاتها فاسدة فإذا عظم عمران المدينة و كثر ساكنها كثرت الآلات بكثرة الأعمال حينئذ و كثرت الصناع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها فإذا تراجع عمرانها و خف ساكنها قلت الصنائع لأجل ذلك و فقدت الإجادة في البناء و الإحكام و المعالاة عليه بالتنميق ثم تقل الأعمال لعدم الساكن فيقل جلب الآلات من الحجر و الرخام و غيرهما فتفقد و يصير بناؤهم و تشيدهم من الآلات التي في مبانيهم فينقلونها من مصنع إلى مصنع لأجل خلاء أكثر المصانع و القصور و المنازل بقلة العمران و قصوره عما كان أولاً ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر و من دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة فيعودون إلى البداوة في البناء و أتخاذ الطوب عوضاً عن الحجارة و القصور عن التنميق بالكلية فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى و المدر و تظهر عليها سيماء البداوة ثم تمر في التناقص إلى غايتها من الخراب إن قدر لها به سنة الله في خلقه.

الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار و المدن في كثرة الرزق لأهلها و نفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة و القلة
و السبب في ذلك أنه قد عرف و ثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه و إنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك و الحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه. و إذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد و نجار للآلات و قائم على البقر و إثارة الأرض و حصاد السنبل و سائر مؤن الفلح و توزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا و حصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين و ضروراتهم. فأهل مدين أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم و حاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال و بقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف و عوائده و ما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار و يستجلبونه منهم بأعواضه و قيمه فيكون لهم بذلك حظاً من الغنى و قد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب و الرزق أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة و دعتهم أحوال الرفه و الغنى إلى الترف و حاجاته من التأنق في المساكن و الملابس و استجادة الآنية و الماعون و اتخاذ الخدم و المراكب و هذه كلها أعمال تستدعى بقيمها و يختار المهرة في صناعتها و القيام عليها فتنفق أسواق الأعمال و الصنائع و يكثر دخل المصر و خرجه و يحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. و متى زاد العمران زادت الأعمال ثانية ثم زاد الترف تابعاً للكسب و زادت عوائده و حاجاته. و استنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها و تضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية و نفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول. و كذا في الزيادة الثانية و الثالثة لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف و الغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب و رفه بعوائد من الترف لا توجد في الآخر فما كان عمرانه من الأمصار أكثر و أوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف. القاضي مع القاضي و التاجر مع التاجر و الصانع مع الصانع و السوقي مع السوقي و الأمير مع الأمير و الشرطي مع الشرطي. و اعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره مثل بجاية و تلمسان و سبتة تجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة، ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان و هكذا كل صنف مع صنف أهله. و كذا أيضاً حال تلمسان مع وهران أو الجزائر و حال وهران و الجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط و يقصرون عنها. و ما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيها فكأنها كلها أسواق للأعمال. و الخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه و كذا القاضي بتلمسان و حيث الدخل و الخرج أكثر تكون الأحوال أعظم و هما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران و قسطنطينية و الجزائر و بسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها و لا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى و المدر. فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر و الخصاصة لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم و لا يفضل ما يتأثلونه كسباً فلا تنمو مكاسبهم. و هم لذلك مساكين محاويج إلا في الأقل النادر. و اعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء و السؤال فإن السائل بفاس أحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. و لقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم و رأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف و اقتراح المآكل مثل سؤال اللحم و السمن و علاج الطبخ و الملابس و الماعون كالغربال و الآنية. و لو سأل سائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر و عنف و زجر. و يبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة و مصر من الترف و الغنى في عوائدهم ما يقضى منه العجب حتى أن كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون من الثقلة إلى مصر لذلك و لما يبلغهم من شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها. و بعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم. و أنهم أكثر صدقة و إيثاراً من جميع أهل الأمصار و ليس كذلك و إنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر و القاهرة أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. و أما حال الدخل و الخرج فمتكافئ في جميع الأمصار أحوال الساكن و وسع المصر. كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره و اعتبره بكثرة العمران و ما يكون عنه من كثرة المكاسبة التي يسهل بسببها البذل و الإيثار على مبتغيه و مثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة و كيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها فإن بيوت أهل النعم و الثروة و الموائد الخصبة منها تكثر بساحتها و أقنيتها بنثر الحبوب و سواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل و الخشاش و يلحق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطاناً و تمتلئ شبعاً و رياً و بيوت أهل الخصاصة و الفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب و لا يحلق بجوها طائر و لا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة و لا هرة كما قال الشاعر:
تسقط الطير حيث تلتقط الحب       و تغشى منازل الكرماء
فتأمل سر الله تعالى في ذلك و اعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات و فتات الموائد بفضلات الرزق و الترف و سهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم و اعلم أن اتساع الأحوال و كثرة النعم في العمران تابع لكثرته و الله سبحانه و تعالى أعلم و هو غني عن العالمين.

الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
إعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس فمنها الضروري و هي الأقوات من الحنطة و ما معناها كالباقلاء و البصل و الثوم و أشباهه و منها الحاجي والكمالي مثل الأدم و الفواكه و الملابس و الماعون و المراكب و سائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر و كثر ساكنة رخصت أسعار الضروري من القوت و ما في معناه و غلت أ سعار الكمالي من الأديم و الفواكه و ما يتبعها و إذا قل ساكن المصر و ضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. و السبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه و لا قوت منزله لشهر أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك. و كل متخذ لقوته فتفضل عنه و عن أهل بيته فضلة كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل القتوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية و لولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن و لا عوض لكثرتها بكثرة العمران. و أما سائر المرافق من الأدم و الفواكه و ما إليها لا تعم بها البلوى و لا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين و لا الكثير منهم ثم أن المصر إذا كان مستبحراً موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق و الاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصوراً بالغاً و يكثر المستامون لها و هي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض و يبذل أهل الرفه و الترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. و أما الصنائع و الأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، و الثاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، و الثالث كثرة المترفين و كثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم و إلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة و منافسة في الاستئثار بها فيغتر العمال و الصناع و أهل الحرف و تغلو أعمالهم و تكثر نفقات أهل المصر في ذلك. و أما الأمصار الصغيرة و القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها و ما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه في فيعز وجوده لديهم و يغلو ثمنه على مستامه. و أما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة بقلة الساكن و ضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره. و قد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض عليها من المكوس و المغارم للسلطان في الأسواق و باب الحفر و الحياة في منافع وصولها عن البيوعات لما يمسهم. و بذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس و المغارم و الفرائض قليلة لديهم أو معدومة. و كثرتها قي الأمصار لا سيما في آخر الدولة و قد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح و يحافظ على ذلك في أسعارها كما و قع بالأندلس لهذا العهد. و ذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر و بلاده المتوعرة الخبيثة الزارعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية و البلد الطيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع و الفدن لإصلاح نباتها و فلحها و كان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم و مواد من الزبل و غيره لها مؤنة و صارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. و اختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. و يحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات و الحبوب في أرضهم و ليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه و أقومهم عليه و قل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلا قليلاً من أهل الصناعات و المهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. و لهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة و أقواتهم و علوفاتهم من الزرع. و إنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. و لما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم و طيب أرضهم ارتفعت عنهم الهون جملة في الفلح مع كثرته و عمومته فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار لا رب سواه.

الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدمناه و تكثر حاجات ساكنه من أجل الترف. و تعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات و تصير فيه الأعمال كلها مع ذلك عزيزة و المرافق غالية بازدحام الأعراض عليها من أجل الترف و بالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات و تعتبر في قيم المبيعات و يعظهم فيها الغلاء في المرافق و أن أوقات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. و يعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه و عياله في ضرورات عيشهم و سائر مؤونتهم. والبدوي لم يكن دخله كثيراً ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأهل كسباً و لا مالاً فيتعذر عليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه و عزة حاجاته. و هو في بدوه يسد حاجته بأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه و سائر مؤونته فلا يضطر إلى المال و كل من يتشوف إلى المصر و سكناه من البادية فسريعاً ما يظهر عجزه و يفتضح في استيطانه إلا من يقدم منهم تأثل المال و يحصل له منه فوق الحاجة و يجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة و الترف فحينئذ ينتقل إلى المصر و ينتظم حالة مع أحوال أهله في عوائدهم و ترفهم. و هكذا شأن بداءة عمران الأمصار. و الله بكل شيء محيط.

الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه و الفقر مثل الأمصار
إعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار و تعددت الأمم في جهاته و كثر ساكنه اتسعت أحوال أهله و كثرت أموالهم و أمصارهم و عظمت دولهم و ممالكهم. و السبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال و ما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفصل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران و كثرته فيعود على الناس كسباً يتأثلونة حسبما نذكر ذلك في فصل المعا ش و بيان الرزق و الكسب فيتزيد الرفه لذلك و تتسع الأحوال و يجيء الترف والغنى و تكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها و يشمخ سلطانها و تتفنن في اتخاذ المعاقل و الحصون و اختطاط المدن و تشييد الأمصار. و اعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر و الشام و عراق العجم و الهند و الصين و ناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي وعظمت لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم و عظمت دولتهم و تعددت مدنهم و حواضرهم و عظمت متاجرهم و أحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم و اتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. و كذا تجار أهل المشرق و ما يبلغنا عن أحوالهم و أبلغ منها أهل المشرق الأقصى من عراق العجم و الهند و الصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى و الرفه غرائب تسير الركبان بحديثها و ربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. و يحسب من يسمعها من العامة أن ذلك لزيادة في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية و الفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم و ليس كذلك فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو من بلاد السودان و هي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال و لا استغنوا عن أموال الناس بالجملة. و لقد ذهب المنجمون لمما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال و اتساعها و وفور أموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب و السهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب و ذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية و الأحوال الأرضية كما قلناه و هم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي و بقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي و هو ما ذكرناه من كثرة العمران و اختصاصه بأرض المشرق وأقطاره و كثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة قي الأعمال التي هي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الأفاق لا إن ذلك لمجرد الأثر النجومي. فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك و أن المطابقة بين حكمه و عمران الأرض و طبيعتها أمر لا بد منه. و اعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر أفريقية و برقة لما خف سكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصه. و ضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة و صنهاجة بها على ما بلغك من الرفه و كثرة الجبايات و اتساع الأحوال في نفقاتهم و أعطياتهم. حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته و مهماته و كانت أموال الدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفر إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعد بها لأرزاق الجنود و أعطياتهم ونفقات الغزاة. و قطر المغرب و أن كان في القديم دون أفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك و كانت أحواله في دول الموحدين متسعة و جباياته موفورة و هو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه و تناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره و نقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوسا، و كاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال أفريقية بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بين السوس الأقصى و برقة. و هي اليوم كلها أو أكثرها قفار و خلاء و صحارى إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول و الله وارث الأرض ومن عليها و هو خير الوارثين.

الفصل الخامس عشر في تأثل ا لعقار و الضياع في الأمصار و حال فوائدها و مستغلاتها
اعلم أن تأثل العقار و الضياع الكثيرة لأهل الأمصار و المدن لا يكون دفعة واحدة و لا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمتها عن الحد و لو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم و تأثلهم لها تدريجاً أما بالوراثة من آبائه و ذوي رحمه حتى تتأدى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد و أكثر لذلك أو أن يكون بحوالة الأسواق فإن العقار في آخر الدولة و أول الأخرى عند فناء الحامية و خرق السياج وتداعى المصر إلى الخراب تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخص قيمتها و تتملك بالأثمان اليسيرة و تتخلى بالميراث إلى ملك آخر و قد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية و انتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها و يكون لها خطر لم يكن في الأول. و هذا معنى الحوالة فيها و يصبح مالكها من أغنى أهل المصر و ليس ذلك بسعيه و اكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. و أما فوائد العقار و الضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بموائد الترف و أسبابه و إنما هي في الغالب لسد الخلة و ضرورة المعاش. و الذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع إنما هو الخشية على من يترك خلفه من الذرية الضعفاء ليكون مرباهم به و رزقه فيه و نشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم و ربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. و أما التمول منه وإجراء أحوال المترفين فلا. و قد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق و حصول الكثرة البالغة منه و العالي في جنسه و قيمته في المصر إلا أن ذلك إذا حصل ربما امتدت إليه أعين الأمراء و الولاة و اغتصبوه في الغالب أو أرادوه على بيعه منهم و نالت أصحابه منه مضار و معاطب و الله غالب على أمره و هو رب العرش العظيم.

الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه و المدافعة
وذلك أن الحضري إذا عظم تموله و كثر للعقار و الضياع تأثله و أصبح أغنى أهل المصر و رمقته العيون بذلك و انفسحت أحواله في الترف و العوائد زاحم عليها الأمراء و الملوك و غصوا به. و لما في طباع البشر من العدوان تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده و ينافسونه فيه و يتحيلون على ذلك بكل ممكن حتى يحصلوه في ربقة حكمه سلطاني و سبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله و أكثر الأحكام السلطانية جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية و هي قليلة اللبث قال صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم. تعود ملكاً عضوضاً. فلا بد حينئذ لصاحب المال و الثروة الشهيرة في العمران من حامية تذود عنه و جاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبية يتحاماها السلطان فيستظل هو بظلها و يرتع في أمنها من طوارق التعدي. و أن لم يكن له ذلك أصبح نهباً بوجوه التخيلات و أسباب الحكام. و الله يحكم لا معقب لحكمه.

الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل ا لدول و أنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها

يتبع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق