الجمعة، 2 ديسمبر 2011

مقدمة أبن خلدون : الجزء الرّابع عشر


هي أوهام. و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة، و وجود في المدرك البشري فقط. و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال، كما في المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم. و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض.
و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. و يسمون هذا الصدور بالتجلي. و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية. و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق. و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل. و ربما أنكر بظاهر الشرع. هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه. يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها. و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة. و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه. لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال. و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال. و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره. و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية. هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا. و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره. و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم. و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم. و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد. و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم و نحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه و هو من هذا المعنى أيضا. و إلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخليه و لا طريقة في لباس و لا حال. بل كان أبو بكر و عمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أكثرهم عبادة. و لم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين و الزهد و المجاهدة.
تشهد بذلك سيرهم و أخبارهم، نعم إن الشيعة يخيلون بما ينعلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم. و الذي يظهر أني المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، و ظهر كلامهم في الإمامة و ما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر و الباطن و جعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع، و أفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، و أفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر و أن يكون على وزانه في الباطن و سموه قطبا لمدار المعرفة عليه، و جعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك.
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي و ما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات و إنما هو مأخوذ من كلام الشيعة و الرافضة و مذاهبهم في كتبهم. و الله يهدي إلى الحق.
تذييل: و قد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أ بيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها و بقوله:
ما وحد الواحد من واحد       إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته       تثنيه أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده       و نعت من ينعته لاحد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجمود على كل من وحد الواحد و لفظ الإلحاد على من نعته و وصفه. و استبشعوا هذه الأبيات و حملوا قائلها على الكفر و استخفوه. و نحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتقاء عين الحدوث بثبوت عين القدم و أن الوجود كله حقيقة واحدة وانية واحدة. و قد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم: الحق عين ما ظهر و عين ما بطن. و يرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. و هم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال و الصدا و المرأى. و أن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. و هذا معنى: كان الله، و لا شيء معه، و هو الآن على ما هو عليه كان عندهم. و معنى قول كبير الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله: ألا كل شيء، ما خلا الله باطل. قالوا: فمن وحد و نعت، فقد قال بموجد محدث. هو نفسه، و توحيد محدث هو فعله، موجود قدير، هو معبود.
و قد تقدم معنى التوحيد انتقاء عين الحدوث، و عين الحدوث، الآن ثابتة بل متعددة، و التوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، و هما معا في بيت واحد: ليس في البيت غيرك، فيقول الآخر بلسان حاله: لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت ! و قد قال بعض المحققين في قولهم: خلق الله الزمان، هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان و هو فعل لابد من وقوعه في الزمان. و إنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق و عجز اللغات عن تأدية الحق فيها و بها. فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد، و عدم ما سواه جملة. صح التوحيد حقيقة. و هذا معنى قولهم لا يعرف الله إلا الله و لا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم و الآثار، و إنما هو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين. لأن ذلك لازم التقييد و العبودية و الشفعية. و من ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصا، مع علمه بمرتبته، و أنه تلبيس تستلزمه العبودية و يرمعه الشهود و يطهر من دنس حدوثه عين الجمع. و أعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. و مدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، و إنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض و التنبيه و التفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية و يحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. و عبارة: فمن سلم استراح و من نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه و بصره. و إذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ. و الذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه و لا خبر عنه. و هذا المقدار من الإشارة كاف. و التعمق في مثل هذا حجاب. و هو الذي أوقع في المقالات المعروفة. انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات، و نقلته من كتاب الوزير أبي الخطيب الذي ألفه في المحبة. و سماه التعريف بالحب الشريف. و قد سمعته من شيخنا أبى مهدي مرارا. إلا أني رأيت رسوم الكتاب أوعى له. لطول عهدي به. و الله الموفق.
ثم إن كثيرا من الفقهاء و أهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات و أمثالها و شملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. و الحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات و ما يحصل من الأذواق و المواجد و محاسبة النفس على أعمالها لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما و يترقى منة إلى غيره كما قلناه و ثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية و العرش و الكرسي والملائكة و الوحي و النبؤة و الروح و حقائق كل موجود غائب أو شاهد و تركيب الألوان في صدورها عن موجودها و تكونها كما مر، و ثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، و رابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر و محسن و متأول. فأما الكلام في المجاهدات و المقامات و ما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها و محاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد و أذواقهم فيه صحيحة و التحقق بها هو عين السعادة. و أما الكلام في كرامات القوم و أخبارهم بالمغيبات و تصرفهم في الكائنات. فأمر صحيح غير منكر. و إن مآل بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. و ما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي و هو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها و هو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات و إنكارها نوع مكابرة. و قد وقع للصحابة و أكابر السلف كثير من ذلك و هو معلوم مشهور. و أما الكلام في الكشف و إعطاء حقائق العلويات و ترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم و فاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. و اللغات لا تعطى له دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للتعارف و أكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك و نتركه فيما تركناه من المتشابه و من رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة. و أما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات و يوآخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس و الواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه و صاحب الغيبة غير مخاطب و المجبور معذور. فمن علم منهم فضله و اقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا و أمثاله و أن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي و أمثاله. و من لم يعلم فضله و لا اشتهر فموآخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. و أما من تكلم بمثلها و هو حاضر في حسه و لم يملكه الحال فموآخذ أيضا. و لهذا أفتى الفقهاء و أكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور و هو مالك لحاله. و الله أعلم. و سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب و لا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع و الاقتداء ما استطاعوا. و من عرض له شيء من ذلك أعرض عنه و لم يحفل به بل يفرون منه و يرون أنة من العوائق و المحن و أنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث و أن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. و علم الله أوسع و خلقه أكبر و شريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك و منعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه و الوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع و الاقتداء و يأمرون أصحابهم بالتزامها. و هكذا ينبغي أن يكون حال المريد و الله الموفق للصواب.

الفصل الثامن عشر: في علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشرعية و هو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع و كتب الناس فيها. و أما الرؤيا و التعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف. و ربما كان في الملوك و الأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام. و إلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق و لابد من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن. و كذلك ثبت عن الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم و عن أبي بكر رضي الله عنه و الرؤيا مدرك من مدارك الغيب. و قال صلى الله عليه و سلم: الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبؤة. و قال: لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ؟ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين و إعزازه. و أما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي و هو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات و مع الدم في سائر البدن و به تكمل أفعال القوى الحيوانية و إحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس و تصريف القوى الظاهرة و غشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انحبس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها و ذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب. ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان و الروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته و ذاته عين الإدراك. و إنما يمنع من تعلقه للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن و قواه و حواشه. فلو قد خلا من هذا الحجاب و تجرد عنه لرجع إلى حقيقته و هو عين الإدراك فيعقل كل مدرك. فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلابد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له و هو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها و هي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه. و إذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. و المدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية و المتصرف منها هو الخيال. فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر و الاستدلال. و كذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول و الخيال واسطة بينهما. و لذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة و يدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنة محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي. و الخيال أيضا واسطة. هذه حقيقة الرؤيا. و من هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. و لكن إن كانت تلك الصور متتزلة من الروح العقلي المدرك فهو رؤيا. و إن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام.
و اعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها و تشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله مما ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنة يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة و لو كان مستغرقا في نومه، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن و عوارضه، و منها ثبوت ذلك الإدراك و دوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخيلها سهو و لا نسيان. و لا يحتاج إلى إحضارها بالفكر و التذكير، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه. و لا يغرب عنه شيء منها، لأن الإدراك النفساني ليس بزماني و لا يلحقه ترتبت، بل يدركه دفعة في زمن فرد. و أضغاث الأحلام زمانية. لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه. و أفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك و المتقدم و المتأخر. و يعرض النسيان العارض للقوى الدماغية. و ليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية، و لا ترتيب فيها. و ما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. و قد تبقى الرؤيا بعد الانتباه. حاضرة في الحفظ أياما من العمر. لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قويا، و إذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر و الوجهة إليها، و ينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة، و إنما هي من أضغاث الأحلام. و هذه العلامات من خواص الوحي. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه و الرؤيا لها نسبة من النبوة و الوحي كما في الصحيح. قال صلى الله عليه و سلم: الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة فلخواصها أيضا نسبة إلى خواص النبوة. بذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحق. و الله الخالق لما يشاء.
و أما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركة و ألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية. فإذا استيقظ و هو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة و أن المدرك وراءها و هو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا: هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه بها السلطان و كذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها و كذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك. و من المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها و وضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك و شبهه. و لهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان. فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل و التي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير و الرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث. و اعلم أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه. فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس و ما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر و لا العدو بالحية و لا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه و إنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها و مناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات و المشمومات. و ليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير و فسد قانونه. ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه. و تأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، و في موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ، و في موضع آخر يقولون: البحر يدل على الهم والأمر الفادح. و مثل ما يقولون: الحية تدل على العدو، و في موضع آخر يقولون: هي كاتم سر، و في موضع آخر يقولون: تدل على الحياة و أمثال ذلك. فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية، و يعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا. و تلك القرائن منها في اليقظة و منها في النوم و منها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه و كل ميسر لما خلق له. و لم يزل هذا العلم فتناقلا بين السلف. و كان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء و كتب عنه في ذلك القوانين و تناقلها الناس لهذا العهد. و ألف الكرماني فيه من بعده. ثم ألف المتكلمون المتأخرون و أكثروا. و المتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع و غيره و كتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه و أحضرها. و كذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. و هو علم مضيء ينور النبؤة للمناسبة التي بينهما و لكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح و الله علام الغيوب.

الفصل التاسع عشر: في العلوم العقلية و أصنافها
و أما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم و يستوون في مداركها و مباحثها. و هي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة. و تسمى هذه العلوم علوم الفلسفة و الحكمة و هي مشتملة على أربعة علوم: الأول علم المنطق و هو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة و فائدته تمييز الخطأ من الصواب. فيما يلتمسه الناظر في الموجودات و عوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفيا و ثبوتا بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية و المكونة عنها من المعدن و النبات و الحيوان و الأجسام الفلكية والحركات الطبيعية. و النفس التي تنبعث عنها الحركات و غير ذلك. و يسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي و هو العلم الثاني منها. و إما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و هو الثالث منها. و العلم الرابع و هو الناظر في المقادير و يشتمل على أربعة علوم و تسمى التعاليم. أولها: علم الهندسة و هو النظر في المقادير على الإطلاق. إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة و هي إما ذو بعد واحد و هو الخط أو ذو بعدين و في السطح، أو ذو أبعاد ثلاثة و هو الجسم التعليمي. ينظر في هذه المقادير و ما يعرض لها إما من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. و ثانيها علم الأرتماطيقي و هو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد و يؤخذ له من الخواص و العوارض اللاحقة. و ثالثها علم الموسيقى و هو معرفة نسب الأصوات و النغم بعضها من بعض و تقديرها بالعدد و ثمرته معرفة تلاحين الغناء. و رابعها علم الهيئة و هو تعيين الأشكال للأفلاك و حصر أوضاعها و تعددها لكل كوكب من السيارة و الثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها و من رجوعها و استقامتها و إقبالها و إدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفية و هي سبعة: المنطق و هو المقدم منها و بعده التعاليم فالأرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات و لكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب و من فروع علم العدد علم الحساب والفرائض و المعاملات و من فروع الهيئة الأزياج و هي قوانين لحساب حركات الكواكب و تعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك و من فروعها النظر في النجوم على الأحكام النجومية و نحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها. و اعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام و هما فارس و الروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدولة و السلطان قبل الإسلام و عصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم و أمصارهم. و كان للكلدانيين و من قبلهم من السريانيين و من عاصرهم من القبط عناية بالسحر و النجامة و ما يتبعها من الطلاسم و أخذ ذلك عنهم الأمم من فارس و يونان فاختص بها القبط و طمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت و ماروت و شأن السحرة و ما نقله أهل العلم من شأن البراري بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك و تحريمه فدرست علومه و بطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع. و الله أعلم بصحتها. مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. و أما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما و نطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة و اتصال الملك. و لقد يقال إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا و غلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم و علومهم. إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، و أصابوا من كتبهم وصحائف علومهم مما لا يأخذه الحصر و لما فتحت أرض فارس و وجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها و تنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه و إن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النار و ذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. و أما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولا و كان لهذه العلوم بينهم مجال رحب و حملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة و غيرهم. و اختص فيها المشاءون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم كانوا يقرؤون في رواق يظلم من الشمس و البرد على ما زعموا. و اتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدن، ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي، و تامسطيون و غيرهم. و كان أرسطو معلما للأسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم و انتزع الملك من أيديهم. و كان أرسخهم في هذه العلوم قدما و أبعدهم فيه صيتا و شهرة. و كان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر. ولما انقرض أمر اليونان و صار الأمر للقياصرة و أخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل و الشرائع فيها. و بقيت في صحفها و دواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام و كتب هذه العلوم باقية فيهم. ثم جاء الله بالإسلام و كان لأهله الظهور الذي لا كفاء له و ابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. و ابتدأ أمرهم بالسذاجة و الغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح من السلطان و الدولة و أخذ الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم و تفننوا في الصنائع و العلوم. تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة و الأقسة المعاهدين بعض ذكر منها و بما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها. فبغث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس و بعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون و اطلعوا على ما فيها و ازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها. و جاء المأمون بعد ذلك و كانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا و أوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين و انتساخها بالخط العربي و بعث المترجمين لذلك فأوعى منه و استوعب. و عكف عليها النظار من أهل الإسلام و حذقوا في فنونها و انتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. و خالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول و اختصوه بالرد و القبول لوقوف الشهرة عنده. و دونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم و كان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي و أبو علي بن سينا بالمشرق و القاضي أبو الوليد بن رشد و الوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. و اختص هؤلاء بالشهرة والذكر و اقتصر كثيرون على انتحال التعاليم و ما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر و الطلسمات. و وقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق و مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس و تلميذه. و دخل على الملة من هذه العلوم و أهلها داخلة و استهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها و الذنب في ذلك لمن ارتكبه. و لو شاء الله ما فعلوه. ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما و تناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس و تحت رقبة من علماء السنة. و يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة و خصوصا في عراق العجم و ما بعده فيما وراء النهر و أنهم على بح من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم و استحكام الحضارة فيهم. و لقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام و أصول الفقه و البيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم. و في أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية و قدما عالية في سائر الفنون العقلية و الله يؤيد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة و ما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق و أن رسومها هناك. متجددة و مجالس تعليمها متعددة و دواوينها جامعة متوفرة و طلبتها متكثرة و الله أعلم بما هنالك و هو يخلق ما يشاء و يختار.

الفصل العشرون: في العلوم العددية
و أولها الأرتماطيقي و هو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد و مثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد على تواليها و الأزواج على تواليها و مثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها الخ، أو يكون أولها ثلث ثانيها و ثانيها ثلث ثالثها الخ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد أحدهما في الآخر. و مثل مربع الواسطة إن كانت العدة فردا و ذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر و مثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية و المربعات و المخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة. و تتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة. و تزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبلة فتكون مخمسة و هلم جرا. و تتوالى الأشكال على توالى الأضلاع و يحدث جدول ذو طول و عرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات الخ و في طوله كل عدد و أشكاله بالغا ما بلغ و تحدث في جمعها و قسمة بعضها على بعض طولا و عرضا خواص غريبة استقرت منها و تقررت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزوج و الفرد و زوج الزوج و زوج الفرد و زوج الزوج و الفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن و ليست في غيره. و هذا الفن أول أجزاء التعاليم و أثبتها و يدخل في براهين الحساب. و للحكماء المتقدمين و المتأخرين فيه تآليف، و أكثرهم يدرجونه في التعاليم و لا يفردونه بالتآليف. فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و غيره من المتقدمين. و أما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول و منفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب و غيره و الله سبحانه و تعالى أعلم. و من فروع علم العدد صناعة الحساب. و هي صناعة علمية في حساب الأعداد بالضم و التفريق. فالضم يكون في الأعداد بالأفراد و هو الجمع. و بالتضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر و هذا هو الضرب و التفريق أيضا يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد و صرفه الباقي و هو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة و هو القسمة. و سواء كان هذا الضم و التفريق في الصحيح من العب أو الكسر. و معنى الكسر نسبة عدد إلى عدد و تلك النسبة تسمى كسرا. و كذلك يكون بالضم و التفريق في الجذور و معناها العد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع. فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم و التفريق و هذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات ألف الناس فيها كثيرا و تداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان. و من أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة و براهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب. و قد قال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني و مناقشة النفس فيصير ذلك خلقا و يتعود الصدق و يلازمه مذهبا. و من أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير. و لابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب و هو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني. و هو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه و هو كتاب جدير بذلك. و ساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم و الكامل للأحدب، و لخص براهينها و غيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة، هي سر الإشارة بالحروف و زبدتها. و هي كلها مستغلقة و إنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها و أعمالها واضحة كلها. و إذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. و في ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله. و الله يهدي بنوره من يشاء و هو القوي المتين. و من فروعه الجبر و المقابلة. و هي صناعة تستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب. أولها العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه و ثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء و هو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية و ثالثها المال و هو أمر مبهم و ما بعد ذلك فعلى نسبة الأس في المضروبين. ثم يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض و يجبرون ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحا. و يحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم و هي العدد و الشيء و المال. فإن كانت المعادلة بين، واحد و واحد تعين فالمال و الجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد و يتعين. و المال و إن عادل الجذور فيتعين بعدتها. و إن كانت المعادلة بين واحد و اثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين و هي مبهمة فيعنيها ذلك الضرب المفصل. و لا يمكن المعادلة بين اثنين و اثنين. و أكثر ما انتهت المعادلة بينهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد و جذر و مال مفردة أو مركبة تجيء ستة. و أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي و بعده أبو كامل شجاع بن أسلم، و جاء الناس على أثره فيه. و كتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه. و شرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا و من أحسن شروحاته كتاب القرشي. و قد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس، و بلغها إلى فوق العشرين و استخرج لها كلها أعمالا و أتبعه ببراهين هندسية. و الله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه و تعالى. و من فروعه أيضا العاملات. و هو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات و المساحات و الزكوات و سائر ما يغرض فيه العدد من المعاملات يصرف في صناعتنا ذلك الحساب في المجهول و المعلوم و الكسر والصحيح و الجذور و غيرها. و الغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران و الدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. و لأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي و ابن السمح و أبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم. و من فروعه أيضا الفرائض. و هي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت و هلك بعض الوارثين و انكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها و تزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقرار و إنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة من كم تصح و سهام الورثة من كل بطن مصححا حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه و كسرة و جذره و معلومه و مجهوله و ترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية و مسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه و هو أحكام الوراثة من الفروض و العول و الإقرار و الإنكار و الوصايا و التدبير و غير ذلك من مسائلها و على جزء من الحساب و هو تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي و هي من أجل العلوم. و قد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم و أنها أول ما يرفع من العلوم و غير ذلك. و عندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم. و أما الفرائض العينية فكثيرة و قد ألف الناس في هذا الفن قديما و حديثا و أوعبوا و من أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت و مختصر القاضي أبي القاسم الحوفي و كتاب ابن المنمر و الجعدي و الصردي و غيرهم. لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها. و قد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح و أوعب. و لإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم، و رسوخ قدمه، و كذا للحنفية والحنابلة. و مقامات الناس في العلوم مختلفة. و الله يهدي من يشاء بمنه و كرمه لا رب سواه.

الفصل الحادي و العشرون: في العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير إما المتصلة كالخط و السطح و الجسم و إما المنفصلة كالأعداد و فيما يعرض لها من العوارض الذاتية. مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين. و مثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه و لو خرجا إذ غير نهاية. و مثل أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. و مثل أن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع و أمثال ذلك. و الكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب أوقليدس و يسمى كتاب الأصول و كتاب الأركان و هو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين و أول ما ترجم من كتاب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور و نسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة و ليوسف بن الحجاج و يشتمل على خمس عشرة مقالة. أربع في السطوح و واحدة في الأقدار المتناسبة و أخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض و ثلاث في العدد و العاشرة في المنطقات و القوى على المنطقات و معناه الجذور و خمس في المجسمات. و قد اختصره الناس اختصارات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء. أفرد له جزءا منها اختصه به. و كذلك ابن الصلت في كتاب الاقتصار و غيرهم. و شرحه آخرون شروحا كثيرة و هو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق. و اعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، استقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها و انتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ و ينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع و قد زعموا أنة كان مكتوبا على باب أفلاطون: من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا و كان شيوخنا رحمهم الله يقولون ممارسة الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار و ينقيه من الأوضار والأدران، و إنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه و انتظامه. و من فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية و المخروطات أما الأشكال الكروية ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس و ميلاوش في سطوحها و قطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه. و لابد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليه. فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية و ما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكروية سطوحها و قطوعها. و أما المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا. و هو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال و القطوع و يبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول. و فائدتها تظهر في الصنائع العملية التي موادها الأجسام مثل التجارة و البناء و كيف تصنع التماثيل الغريبة و الهياكل النادرة و كيف يتخيل على جر الأثقال و نقل الهياكل بالهندام و الميخال و أمثال ذلك. و قد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتابا في الحيل العلمية يتضمن من الصناعات الغريبة و الحيل المستظرفة كل عجيبة. و ربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية و هو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر. و الله تعالى أعلم. و من فروع الهندسة المساحة و هو فن يحتاج إليه في مسح الأرض و معناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما و نسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك. و يحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع و الفدن و بساتين الغراسة و في قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء و الورثة و أمثال ذلك. و للناس فيها موضوعات حسنة و كثيرة و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه. المناظرة من فروع الهندسة و هو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر و قاعدته المرئي. ثم يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا و البعيد صغيرا. و كذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء و وراء الأجسام الشفافة كبيرة و رؤية النقطة النازلة من المطر خطا مستقيما و السلقة دائرة و أمثال ذلك. فيتبين في هذا العلم أسباب ذلك و كيفياته بالبراهين الهندسية و يتبين به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة و حصول الكسوفات و كثير من أمثال هذا. و قد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين. و أشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم. و لغيره أيضا تآليف و هو من هذه الرياضة و تفاريعها.

الفصل الثاني و العشرون: في علم الهيئة
و هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة و المحركة و المتحيرة. و يستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال و أوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية. كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال و الإدبار و كما يستدل بالرجوع و الاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم و كما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة و كما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له و أمثال ذلك. و إدراك الموجود من الحركات و كيفياتها و أجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركة الإقبال و الإدبار به. و كذا تركيب الأفلاك في طبقاتها و كذا الرجوع و الاستقامة و أمثال ذلك. و كان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا و يتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين. و كانت تسمى عندهم ذات الحلق و صناعة عملها و البراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس.
و أما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل. و كان في أيام المأمون شيء منه و صنع هذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق. و شرع في ذلك فلم يتم. و لما مات ذهب رسمه و أغفل و اعتمد من بعده على الأرصاد القديمة و ليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب. و أن مطابقة حركة الآلة للرصد بحركة الأفلاك و الكواكب إنما هو بالتقريب. و هذه الهيئة صناعة شريفة و ليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطى صورة السماوات و ترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور و الهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. و أنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين و إن قلنا إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم و لا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل و هو أحد أركان التعاليم. و من أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس. و ليس من ملوك اليونان الذين أسماؤهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب. و قد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا و أدرجه في تعاليم الشفاء. و لخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس و ابن السمح و ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار. و لابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها و حذف براهينها الهندسية. و الله علم الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين. و من فروعه علم الأزياج. و هي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته و ما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة و بطء و استقامة و رجوع و غير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. و لهذه الصناعة قوانين كالمقدمات و الأصول لها في معرفة الشهور و الأيام و التواريخ الماضية و أصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض و الميول و أصناف الحركات و استخراج بعضها من بعض، يضعونها في جدول مرتبة تسهيلا على المتعلمين و تسمى الأزياج. و يسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا و تقويما. و للناس فيه تآليف كثيرة للمتقدمين و المتأخرين مثل البتاني و ابن الكماد. و قد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة. و يزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد. و أن يهوديا كان بصقلية ماهرا في الهيئة و التعاليم و كان قد عني بالرصد و كان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب و حركه لها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. و لخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه و إنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتنبني عليها الأحكام النجومية و هو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك و الدول و المواليد البشرية و الكوائن الحادثة كما نبينه بعد و نوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى. و الله الموفق لما يحبه و يرضاه لا معبود سواه.

الفصل الثالث و العشرون: في علم المنطق
و هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرفة للماهيات و الحجج المفيدة للتصديقات و ذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس. و جميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق و غيره و إنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات و هي مجردة من المحسوسات. و ذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة و هي الكلي. ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض. فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه. و لا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. و هذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها. ثم ينظر بينه و بين الحيوان و يجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثم ينظر بينهما و بين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي و هو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم و الصنائع و كان العلم: إما تصورا للماهيات و يعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه و إما تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص و إما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له و يكون ذلك تصديقا. و غايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي. و هذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح و قد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. و تكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا و مفترقا مفترقا. و لم تهذب طرقه و لم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه و رتب مسائله و فصوله و جعله أول العلوم الحكمية و فاتحتها. و لذلك يسمى بالمعلم الأول و كتابة المخصوص بالمنطق يسمى النص و هو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صور القياس و أربعة في مادته. و ذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه و منها ما يكون المطلوب فيه الفن و هو على مراتب فيظهر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده و ما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار و من أي جنس يكون من العلم أو من الفن. و قد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة. و يقال للنظر الأول إنه من حيث المادة و نعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن و يقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة و إنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية: الأول في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات و هي التي ليس فوقها جنس و يسمى كتاب المقولات. و الثاني في القضايا التصديقية و أصنافها و يسمى كتاب العبارة. و الثالث في القياس و صورة إنتاجه على الإطلاق و يسمى كتاب القياس و هذا آخر النظر من حيث الصورة. ثم الرابع كتاب البرهان و هو النظر في القياس المنتج لليقين و كيف يجب أن تكون مقدماته يقينية. و يختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية و أولية و غير ذلك. و في هذا الكتاب الكلام في المعرفات و الحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد و المحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب. و الخامس: كتاب الجدل و هو القياس المفيد قطع المشاغب و إفحام الخصم و ما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات و يختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض و هي مذكورة هناك. و في هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه و فيه عكوس القضايا. و السادس: كتاب السفسطة و هو القياس الذي يفيد غلاف الحق و يغالط به المناظر صاحبه و هو فاسد و هذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه. و السابع: كتاب الخطابة و هو القياس المفيد ترغيب الجمهور و حملهم على المراد منهم و ما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. و الثامن: كتاب الشعر و هو القياس الذي يفيد التمثيل و التشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه و ما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية. هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم إن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة و رتبت رأوا أنة لابد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها و هي الجنس و الفصل و النوع و الخاص و العرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا و ترجمت كلها في الملة الإسلامية. و كتبها و تداولها فلاسفة الإسلام بالشرح و التلخيص كما فعله الفارابي و ابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس. و لابن سينا كتاب الشفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق و ألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته و هي الكلام في الحدود و الرسوم نقلوها من كتاب البرهان. و حذفوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات. و ألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس. و إن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنة من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادة و حدقوا النظر فيه بحسب المادة و هي الكتب الخمسة: البرهان و الجدل و الخطابة و الشعر و السفسطة. و ربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما و أغفلوها كأن لم تكن هي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا و نظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه و اتسع. و أول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب و من بعده أفضل الدين الخونجي و على كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. و له في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار و هو طويل و اختصر فيها مختصر الموجز و هو حسن في التعليم ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن و أصوله متداولة المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به. و هجرت كتب المتقدمين و طرقهم كأن لم تكن و هي ممتلئة من ثمرة المنطق و فائدته كما قلناه. و الله الهادي للصواب.
اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف و المتكلمين. و بالغوا في الطعن عليه و التحذير منه و حظروا تعلمه و تعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي و الإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء. و أكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين. فينفرون عنه و يبالغون في إنكاره. فلنبين لك نكتة القول و الرد في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، و ذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية، كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة و ذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأغراض و حدوثها. و امتناع خلو الأجسام عنها، و ما لا يخلو عن الحوادث حادث. و كإثبات التوحيد بدليل التمانع. و إثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد. و غير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم. ثم مرروا تلك الأدلة بتمهيد قواعد و أصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد و الزمن الفرد و الخلاء بين الأجسام و نفي الطبيعة و التركيب العقلي للماهيات. و أن العرض لا يبقى زمنين و إثبات الحال و هي صفة الموجود، لا موجودة و لا معدومة و غير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة. ثم ذهب الشيخ أبو الحسن، و القاضي أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق إلا أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها. و لهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد و القدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. و إذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي، و إثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس، التي هي الجنس و النوع و الفصل والخاصة و العرض العام، و هذا باطل عند المتكلمين. و الكلي و الذاتي عندهم إنما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه. أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس و التعريف المبني عليها. و المقولات العشر، و يبطل العرض الذاتي، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان و تبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. و هي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس، و لا يبقى إلا القياس الصوري، و من التعريفات المساوئ في الصادقية على أفراد المحمود، لا يكون أعلم منها، فيدخل غيرها، و لا أخص فيخرج بعضها، و هو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع و المنع و المتكلمون بالطرد و العكس، و تنهدم أركان المنطق جملة. و إن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر. فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق و عده بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل. و المتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، و لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، و صح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي و وجوب الماهيات الطبيعية و كلياتها في الخارج، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية. و إن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية، كنفي الجوهر الفرد و الخلاء و بقاء الأعراض و غيرها، و يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر و القياس العقلي. و لم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه. و هذا رأي الإمام و الغزالي و تابعهما لهذا العهد، فتأمل ذلك و اعرف مدارك العلماء و مآخذهم فيما يذهبون إليه. و الله الهادي و الموفق للصواب.

الفصل الرابع و العشرون: في الطبيعيات
و هو علم يبحث في الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة و السكون فينظر في الأجسام السماوية و العنصرية و ما يتولد عنها من حيوان و إنسان و نبات و معدن و ما يتكون في الأرض من العيون و الزلازل و في الجو من السحاب و البخار و الرعد والبرق و الصواعق و غير ذلك. و في مبدأ الحركة للأجسام و هو النفس على تنوعها في الإنسان و الحيوان و النبات. و كتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون و ألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان و الشرح و أوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجا و في كتاب الإشارات و كأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها و يقول برأيه فيها. و أما ابن رشد فلخص كتب أرسطو و شرحها متبعا له غير مخالف. و ألف الناس في ذلك كثيرا لكن هذه هي المشهورة لهذا العهد و المعتبرة في الصناعة. و لأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لا بن سينا و للإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن و كذا الآمدي و شرحه أيضا نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه من أهل المشرق و بحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره و بحوثه و فوق كل ذي علم عليم و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الخامس و العشرون: في علم الطب
و من فروع الطبيعيات صناعة الطب و هي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض و يصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة و برء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن و أسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها و ما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية و قواها و على المرض بالعلامات المؤذن بنضجه و قبوله الدواء أولا: في السجية و الفضلات و النبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة و المرض. و إنما الطبيب يحاذيها و يعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة و الفصل و السن و يسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب. و ربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام و جعلوه علما خاصا، كالعين و عللها وأكحالها. كذلك ألحقوا بالفن من مناخ الأعضاء و معناها المنفعة التي لأجلها خلق كل عضو من أعضاء البدن الحيواني. و إن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا أنهم جعلوه من لواحقه و توابعه. و إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام و يقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب و مطاوعة اغتراب. و تآليفه فيها هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده. و كان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاءوا من وراء الغاية مثل الرازي و المجوسي و ابن سينا و من أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر. و هي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران و تناقصه و هي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة و الترف كما نبينه بعد. و للبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحي و عجائزه، و ربما يصح منه البعض إلا أنة ليس على قانون طبيعي و لا على موافقة المزاج. و كان عند العرب من هذا الطب كثير و كان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة و غيره. و الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل و ليس من الوحي في شيء و إنما هو أمر كان عاديا للعرب. و وقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه و سلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع و لم يبعث لتعريف الطب و لا غيره من العاديات. و قد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنة مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك و صدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع. و ليس ذلك في الطب المزاجي و إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل و نحوه و الله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.

الفصل السادس و العشرون: في الفلاحة
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات و هي النظر في النبات من حيث تنميته و نشؤه بالسقي و العلاج و تعهده بمثل ذلك و كان للمتقدمين بها عناية كثيرة و كان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه و تنميته و من جهة خواصه و روحانيته و مشاكلتها لروحانيات الكواكب و الهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. و ترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير. و لما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب و كان باب السحر مسدودا و النظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه و علاجه و ما يعرض له في ذلك و حذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة. و اختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج و بقي الفن الآخر منه مغفلا، نقل منة مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شاء الله تعالى. و كتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة و لا يعدون فيها الكلام في الغراس و العلاج و حفظ النبات من حوائجه و عوائقه و ما يعرض في ذلك كله و هي موجودة.

الفصل السابع و العشرون: في علم الإلهيات
و هو علم ينظر في الوجود المطلق فأولا في الأمور العامة للجسمانيات و الروحانيات من الماهيات و الوحدة و الكثرة و الوجوب و الإمكان و غير ذلك ثم ينظر في مبادئ الموجودات و أنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها و مراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام و عودها إلى المبدأ. و هو عندهم علم شريف يزعمون أنة يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه و أن ذلك عين السعادة في زعمهم. و سيأتي الرد عليهم بعد. و هو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة. و كتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس. و لخصه ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و كذلك لخصه ابن رشد من حكماء الأندلس. و لما وضع المتأخرون في علوم القوم و دونوا فيها و رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث، و تشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات و مسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات و الإلهيات و خلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات و توابعها ثم بالروحانيات و توابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية و جميع من بعده من علماء الكلام. و صار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة و كتبه محشوة بها كأن الغرض مم موضوعهما و مسائلهما واحد. و التبس ذلك على الناس و هو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل و لا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع و أنظاره و ما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان و مذاهب السلف فيها و تدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية. و ذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف و اعتقدوها و كثير ما بين المقامين. و ذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها و محيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف و المدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا و نثق به دونها و لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل و لو عارضه بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا و علما و نسكت عما لم نفهم من ذلك و نفوضه إلى الشارع و نعزل العقل عنه و المتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم و استدعى ذلك الحجج النظرية
يتّبع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق