الخميس، 1 ديسمبر 2011

مقدّمة إبن خلدون : الجزء السابع


البهيمة إذا كان بصير بسياستها التمس معرفة إخلاقها فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها و إن كانت شبوباً أتقاها من بين يديها و إن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها و إن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها و في هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس و عاملهم و جربهم و داخلهم و الكاتب 
الجزء السّابع :
يفضل أدبه و شريف صنعته و لطيف حيلته و معاملته لبن يحاوره من الناس و يناظره و يفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه و مداراته و تقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً و لا تعرف صواباً و لا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر و اعملوا ما أمكنكم فيه من الروية و الفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة و الاستثقال و الجفوة و يصير منكم إلى الموافقة و تصيروا منه إلى المؤاخاة و الشفقة إن شاء الله. و لا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه و ملبسه و مركبه و مطعمه و مشربه و بنائه و خدمه و غير ذلك من فنون أمر قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير و حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع و التبذير و استعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم و قصصته عليكم و احذروا متالف السرف و سوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر و يذلان الرقاب و يفصحان أهلهما و سيما الكتاب و أرباب الآداب و للأمور أشباه و بعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجةً و أصدقها حجةً و أحمدها عاقبةً و اعلموا أن للتدبير آفة متلفة و هو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه و رويته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه و ليوجز في ابتدائه و جوابه و ليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله و مدفعه للتشاغل عن إكثاره و ليضرع إلى الله في صلة توفيقه و إمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه و عقله و أدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته و قوة حركته إنما هو بفصل حيلته و حسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز و جل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف و ذلك على من تأمله غير خاف و لا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور و أحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته و مصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره و رأى أن أصحابه أعقل منه و أحمد في طريقته و على كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثنأوه من غير اغترار برأيه و لا تزكية لنفسه و لا يكاثر على أخيه أو نظيره و صاحبه و عشيره و حمد الله واجب على الجميع و ذلك بالتواضع لعظمته و التذلل لعزته و التحدث بنعمته و أنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النصيحة يلزمه العمل و هو جوهر هذا الكتاب و غره كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز و جل فلذلك جعلته آخره و تممته به تولانا الله و إياكم يا معشر الطلبة و الكتبة بما يتولى به من سبق عليه بإسعاده و إرشاده فإن ذلك إليه و بيده و السلالم عليكم و رحمة الله و بركاته.
( الشرطة ): و يسمى صاحبها لهذا العمل بأفريقية الحاكم و في دولة أهل الأندلس صاحب المدينة و في دولة الترك الوالي. و هي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة و حكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان و كان أصل و ضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال اسبدادها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها و للسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد و باستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة و ربما جعلوا إليه النظر في الحدود و الدماء بإطلاق، و أفردوها من نظر القاضي و نزهوا هذه المرتبة و قلدوها كبار القواد و عظماء الخاصة من مواليهم و لم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدماء و أهل الريب و الضرب على أيدي الرعاع و الفجرة. ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس و نوعت إلى شرقي كبرى و شرطة صغرى و جعل حكم الكبرى على الخاصة و الدماء و جعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية و الضرب على أيديهم في الظلامات و على أيدي أقاربهم و من إليه من أهل الجاه و جعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة و نصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان و رجال يتبوؤن المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه و كانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة و الحجابة.
و أما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه إن لم يجعلوها عامة و كان لا يليها إلا رجالات الموحدين و كبراؤهم و لم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية ثم فسد اليوم منصبها و خرجت عن رجال الموحدين و صارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. و أما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليه و أهل اصطناعهم و في دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الترك يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة و المضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد و حسم أبواب الدعارة و تخريب مواطن الفسوق و تفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية و السياسة كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة و الله مقلب الليل و النهار و هو العزيز الجبار و الله تعالى أعلم.
( قيادة الأساطيل ): و هي من مراتب الدولة و خططها في ملك المغرب و أفريقية و مرؤسة لصاحب السيف و تحت حكمه في كثير من الأحوال و يسمى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الإفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم و إنما اختصت هذه المرتبة بملك أفريقية و المغرب لأنهما جميعاً على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب و على عدوته الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الشام و على عدوته الشمالية بلاد الأندلس و الإفرنجة و الصقالبة و الروم إلى بلاد الشام أيضاً و يسمى البحر الرومي و البحر الشامي نسبةً إلى أهل عدوته و الساكنون بسيف هذا البحر و سواحله من عدوتيه يعانون من أحواله مالا تعانيه أمة من أمم البحار فقد كانت الروم و الإفرنجة و القوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي و كانت أكثر حروبهم و متاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه و الحرب في أساطيله و لما أسف من أسف منهم إلى تلك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى أفريقية و القوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل و ملكوها و تغلبوا على البربر بها و انتزعوا من أيديهم أمرها و كان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة و سبيطلة و جلولاء و مرناق و شرشال و طنجة و كان صاحب قرطاجنة من قبليهم يحارب صاحب رومة و يبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر و المدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم و الحديث و لما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن ( صف لي البحر ) فكتب إليه: ( إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود ) فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه و لم يركبه أحد من العرب إلا من افتات على عمر في ركوبه و نال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمال فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه و عنفه أنه ركب البحر للغزو و لم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه و الجهاد على أعواده و السبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته و ركوبه و الروم و الإفرنجة لممارستهم أحواله و مرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه و أحكموا الدراية بثقافته فلما استقر الملك للعرب و شمخ سلطانهم و صارت أمم العجم خولا لهم و تحت أيديهم و تقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته و استخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً و تكررت ممارستهم للبحر و ثقافته و استحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه و أنشأوا السفن فيه و الشواني و شحنوا الأساطيل بالرجال و السلاح و أمطوها العساكر و المقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر و اختصوا بذلك من ممالكهم و ثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر و على حافته مثل الشام و أفريقية و المغرب و الأندلس و أوعز الخليفة عند الملك إلى حسان بن النعمان عامل أفريقية باتخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد و منها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا و فتح قوصرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه و فتحت على يد ابن الأغلب و قائده أسد بن الفرات و كانت من بعد ذلك أساطيل أفريقية و الأندلس في دولة العبيديين و الأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد و التخريب. و انتهي أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها و أسطول أفريقية كذلك مثله أو قريباً منه و كان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس و مرفأها للخط و الإقلاع بجاية و المرية و كانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد تتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه و سلاحه و مقاتلته و رئيس يدبر أمر جزيته بالريح أو بالمجاذيف و أمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم و شحنها السلطان برجاله و أنجاد عساكره و مواليه و جعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم و ينتظر إيابهم الفتح و الغنيمة و كان المسلمون لعهده الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه و عظمت صولتهم و سلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشي من جوانبه و امتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح و الغنائم و ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة و منورقة و يابسة و سردانية و صقلية و قوصرة و مالطة و أقريطش و قبرص و سائر ممالك الروم و الإفرنج و كان أبو القاسم الشيعي و أبناوه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر و الغنيمة و افتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيل سنة خمس و أربعمائة و ارتجعها النصارى لوقتها و المسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثير من لجة هذا البحر و صارت أساطيلهم فيهم جائية و ذاهبة و العساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج و تثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين و انحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجالب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة و الصقالبة و جزائر الرومانية لا يعدونها و أساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته و قد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة و عدداً و اختلفت في طرقه سلماً و حرباً فلم تظهر للنصرانية فيه ألواح حتى إذا أدرك الدولة العبيدية و الأموية الفشل و الوهن و طرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية و إقريطش و مالطة فملكوها ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة و ملكوا طرابلس و عسقلان و صور و عكاء و استولوا على جميع الثغور بسواحل الشام و غلبوا على بيت المقدس و بنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم و عبادتهم و غلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس و صفاقس و وضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري و كانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر و ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر و الشام إلى أن انقطع و لم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو تجاوزت في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك و بقيت بأفريقية و المغرب فصارت مختصة بها و كان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو و لا كانت لهم به كرة فكال قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس و من أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم و طاعتهم و انتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعاً. و لما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة و ملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف و أعظم ما عهد و كان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صد غيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النصارى من سواحلها و ربي عندهم و استخلصه صاحب صقلية و استكفاه ثم هلك، و ولي الجنة فأسخطه ببعض النزعات و خشي على نفسه و لحق بتونس و نزل على السند بها من بنى عبد المؤمن و أجاز مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة و الكرامة و أجزل الصلة و قلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية و كانت له آثار و أخبار و مقامات مذكورة في دولة الموحدين. و انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة و الاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل و لا بعد فيما عهدناه و لما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر و الشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية و تطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد و الأقوات و لم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحرية و تعدد أساطيلهم فيه و ضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب فمنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من ملوك بني منقذ ملوك شيزر، و كان ملكها من أيديهم و أبقى عليهم في دولته فبعث عند الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب و بين مرامهم من أمداد النصرانية بثغور الشام و أصحبه كتابة إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه ( فتح الله لسيدنا أبواب المناحج و الميامن ) حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القيسي فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين و أسرها في نفسه و حملهم على مناهج البر و الكرامة و ردهم إلى مرسلهم و لم يجبه إلى حاجته من ذلك و في هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل و ما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الاستطالة و عدم عناية الدول بمصر و الشام لذلك العهد و ما بعده لشأن الأساطيل البحرية و الاستعداد منها للدولة و لما هلك أبو يعقوب المنصور و اعتلت دولة الموحدين و استولت أمهم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس و ألجأوا المسلمين إلى سيف البحر و ملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي في من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر و اشتدت شوكتهم و كثرت فيه أساطيلهم و تراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية و عديدهم ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة و نسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب و انقطاع الموائد الأندلسية و رجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه و المران عليه و البصر بأحواله و غلب الأمم في لجته على أعواده و صار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار و الأعوال أو قلة من الدولة تستجيش لهم أعواناً و ترضع لهم في هذا الغرض مسلكاً و بقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة و الرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء و الركوب مهوداً لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية و المسلمون يستهبون الريح على الكفر و أهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية و افتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة و أن ذلك يكون في الأساطيل و الله و لي المؤمنين و هو حسبنا و نعم الوكيل.

الفصل الخامس و الثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف و القلم في الدول
إعلم أن السيف و القلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمر إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني و السيف شريك في المعونة و كذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتهما كما ذكرناه و يقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قذفناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف و تقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة و المدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين و يكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً و أكثر نعمة و اسنى إقطاعاً و أما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره و لم يبقى همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية و الضبط و مباهاة الدول و تنفيذ الأحكام و القلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه و تكون السيوف مهملة في مضاجع أعمالها إلا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة و مما سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً و أعلى رتبة و أعظم نعمةً و ثروةً و أقرب من السلطان مجلساً و أكثر إليه تردداً و في خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه و النظر إلى أعطافه و تثقيف أطرافه و المباهاة بأحواله و يكون الوزراء حينئذ و أهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. و في معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهما سنة الله في عباده و الله سبحانه و تعالى أعلم.


الفصل السادس و الثلاثون في شارات الملك و السلطان الخاصة به
إعلم أن للسلطان شارات و أحوالاً تقتضيها الأبهة و البذخ فيختص بها و يتميز بانتحالها عن الرعية و البطالة و سائر الرؤساء في دولته فنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة ( و فوق كل ذي علم عليم ).
الآلة: فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية و الرايات و قرع الطبول و النفخ في الأبواق و القرون و قد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة و لعمري أنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه و هذا السبب الذي ذكره أرسطو أن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. و أما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم و الأصوات يدركها الفرح و الطرب بلا شك فتصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب و يستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه و هذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء و الخيل بالصفير و الصريخ كما علمت و يريد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء و أنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية لا طبلاً و لا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم و يغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة و لقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر و يطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها و يسارعون إلى مجال الحرب و ينبعث كل قرن إلى قرنه و كذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف و يتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي و يبعث على الاستماتة من لا يظن بها و يسمون ذلك الغناء تاصو كايت و أصله كأنه فرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخبر بما حدث عنها من الفرح و الله أعلم و أما تكثير الرايات و تلوينها و إطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر و بما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام و أحوال النفوس و تنويعاتها غريبة و الله الخلاق العليم. ثم أن الملوك و الدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر و منهم مقلل بحسب أتساع الدولة و عظمها فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة و لم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب و الغزوات لعهد النبي صلى الله عليه و سلم و من بعده من الخلفاء. و أما قرع الطبول النفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزها عن غلظة الملك و رفضاً لأحواله و احتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء حتى إذا انقلبت الخلافة ملكاً و تبجحوا بزهرة الدنيا و نعيمها و لا بسهم الموالي من الفرس و الروم أهل الدول السالفة و أروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ و الترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها و أذنوا لعمالهم في أتخاذها تنويهاً بالملك و أهله فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش و يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه و يخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات و الآلات فلا يميز بين موكب العامل و الخليفة إلا بكثرة الألوية و قلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم و نعياً على بني أمية في قتلهم و لذلك سموا المسودة، و لما افترق أمر الهاشميين و خرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة و عصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً و سموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين و من خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان و داعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من غيرهم كالقرامطة. و لما نزع المأمون عن لبس السواد و شعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. و أما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد و قد كانت أنه العبيدبين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود و خمسمائة من الأبواق. و أما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة و غيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب و اتخذوها من الحرير الخالص ملونة و استمروا على الإذن فيها لعمالهم حتى إذا جاءت دولة الموحدين و من بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطبول و البنود على السلطان و حظروها على من سواه من عماله و جعلوا لها موكبا خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة و هم فيه بين مكر و مقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبركاً بالسنة كما هو في دولة الموحدين و بني الأحمر بالأندلس و منهم من يبلغ العشرة و العشرين كما هو عند زناتة و قد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول و مائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير و صغير و يأذنون للولاة و العمال و القواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء و طبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك و أما دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون راية واحدة عظيمة و في رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش و الجتر و هي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات و يسمونها السناجق واحدها سنجق و هي الراية بلسانهم. و أما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها و يسمونها الكوسات و يبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان. و أما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً و معها قرع الأوتار من الطنابير و نفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء و طريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم و عمن وراءهم من ملوك العجم و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.
السرير: و أما السرير و المنبر و التخت و الكرسي، فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد و لم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام و في دول العجم و قد كانوا يجلسون على أسرة الذهب و كان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما و سلامه كرسي و سرير من عاج مغشى بالذهب إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال و الترف شأن الأبهة كلها كما قلناه و أما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوقون إليه و أول من أتخذه في الإسلام معاوية و استأذن الناس فيه و قال لهم إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه و أتبعه الملوك الإسلاميون فيه و صار من منازع الأبهة و لقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب و يأتيه المقوقس إلى قصره و معه سرير من الذهب محمولاً على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه و هو أمامه و لا يغيرون عليه وفاءً له بما عقد معهم من الذمة و اطراحاً لأبهة الملك ثم كان بعد ذلك لبني العباس و العبيديين و سائر ملوك الإسلام شرقاً و غرباً من الأسرة و المنابر و التخوت ما عفا عن الأكاسرة و القياصرة و الله مقلب الليل و النهار.
السكة: و هي الختم على الدنانير و الدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة و يضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرةً مستقيمةً بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى و بعد تقدير أشخاص الدراهم و الدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً و أن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً و لفظ السكة كان ا سماً للطابع و هي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها و هي النقوش الماثلة على الدنانير و الدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك و النظر في استيفاء حاجاته و شروطه و هي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول و هي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات و يتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة و كان ملوك العجم يتخذونها و ينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك و لم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم و لما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين و بداوة العرب و كانوا يتعاملون بالذهب و الفضة وزناً و كانت دنانير الفرس و دراهمهم بين أيديهم و يردونها في معاملتهم إلى الوزن و يتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير و الدراهم لغفلة الدولة عن ذلك و أمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب و أبو الزناد بضرب الدراهم و تمييز المغشوش من الخالص و ذلك سنة أربع و سبعين و قال المدائني سنة خمس و سبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست و سبعين و كتب عليها الله أحد الله الصمد ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسري في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده و قيل أول من ضرب الدنانير و الدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز و كتب عليها في أحد الوجهين بركة الله و في الآخر اسم الله ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة و كتب عليها اسم الحجاج و قدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر و ذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق و المثقال وزنه درهم و ثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل و كان السبب في ذلك أن أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة و كان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً و منها اثنا عشر و منها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط و ذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً و ثلاثة أسباع درهم و قيل كان منها البغلي بثمانية دوانق و الطبري أربعة دوانق و المغربي ثمانية دوانق و اليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي و الطبري اثني عشر دانقاً و كان الدرهم ستة دوانق و إن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً و إذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه و اتخذ فيه كلمات لا صوراً، لأن العرب كان الكلام و البلاغة أقرب مناحيهم و أظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها و كان الدينار و الدرهم على شكلين مدورين و الكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً و تحميداً و صلاة على النبي و آله و في الوجه الثاني التاريخ و اسم الخليفة و هكذا أيام العباسيين و العبيديين و الأمويين و أما صنهاجة فلم يتخذوا سكةً إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه و لما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ السكة الدرهم مربع الشكل و أن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه و يملأ من أحد الجانبين تهليلاً و تحميداً من الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه و اسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون و كانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد و لقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته و أما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة و إنما يتعاملون بالدنانير و الدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها و لا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل و الصلاة و اسم السلطان كما يفعله أهل المغرب ذلك تقدير العزيز العليم.
و لنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم و الدينار الشرعيين و بيان حقيقة مقدارهما.


مقدار الدرهم و الدينار الشرعيين
و ذلك أن الدينار و الدرهم مختلفا السكة في المقدار و الموازين بالآفاق و الأمصار و سائر الأعمال و الشرع قد تعرض لذكرهما و علق كثيراً من الأحكام بهما في الزكاة و الأنكحة و الحدود و غيرها فلا بد لهما عنده من حقيقة و مقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي، منهما فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام و عهد الصحابة و التابعين أن الدرهم الشرعي، هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب و الأوقية منه أربعين درهاً و هو على هذا سبعة أعشار الدينار و وزن المثقال من الذهب اثنتان و سبعون حبة من الشعير فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة و خمسا حبة و هذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري و هو أربعة دوانق و البغلي وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشرعي بينما و هوست دوانق فكانوا يوجبون الزكاة في مائة درهم بغلية و مائة طبرية خمسة دراهم و سطاً و قد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه. ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن و الماوردي في الأحكام السلطانية و أنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار و الدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة من بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة و الأنكحة والحدود و غيرها كما ذكرناه و الحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق و كان مقدارهما غير مستخص في الخارج و إنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدار في مقدارهما و زنتهما حتى استفحل الإسلام و عظمت الدولة و دعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار و الوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير و قارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما و عينهما في الخارج كما هو في الذهن و نقش عليهما السكة باسمه و تأريخه أثر الشهادتين الإيمانيتين و طرح النقود الجاهلية رأساً حتى خلصت و نقش عليها سكةً و تلاشى وجودها فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه و من بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار و الدرهم و اختلفت في كل الأقطار و الآفاق و رجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول و صار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسب التي بينها و بين مقاديرها الشرعية و أما وزن الدينار باثنتين و سبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون و عليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك و زعم أن وزنه أربع و ثمانون حبة. نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق و رده المحققون و عدوه وهماً و غلطاً و هو الصحيح و الله يحق الحق بكلماته و كذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار و الشرعية متحدة ذهناً لا اختلاف فيها و الله خلق كل شيء فقدره تقديراً.
الخاتم و أما الخاتم فهو من الخطط السلطانية و الوظائف الملوكية و الختم على الرسائل و الصكوك معروف للملوك قبل الإسلام و بعده و قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة و نقش فيه محمد رسول الله قال البخاري جعل الثلاث الكلمات ثلاثة أسطر و ختم به و قال لا ينقش أحد مثله قال و تختم به أبو بكر و عمر و عثمان ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس و كانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد و اغتم عثمان و تطير منه و صنع آخر على مثله و في كيفية نقش الخاتم و الختم به وجوه و ذلك أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الإصبع و منه تختم إذا لبسه و يطلق على النهاية و التمام و منه ختمت الأمر إذا بلغت آخره و ختمت القرآن كذلك و منه خاتم النبيين و خاتم الأمر و يطلق على السداد الذي يسد به الأواني و الدنان و يقال فيه ختام و منه قوله تعالى: ختامه مسك و قد غلط من فسر ذلك بالنهاية و التمام قال لأن آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك و ليس المعنى عليه و إنما هو من الختام هو السداد لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها و يطيب عرفها و ذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك و هو أطيب عرفاً و ذوقاً من القار و الطين المعهودين في الدنيا فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها و ذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مداف من الطين أو مداد و وضع على صفح القرطاس بقى أكثر الكلمات في ذلك الصفح و كذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه و إذا كانت كلمات و ارتسمت فقد تقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النفش على الاستقامة من اليمنى و قد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح عما كان في النقش من يمين أو يسار فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين و وضعه في الصفح فتنتقش الكلمات فيه و يكون هذا من معنى النهاية و التمام بمعنى صحة ذلك المكتوب و نفوذه كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات و هو من دونها ملغى ليس بتمام و قد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب و نفوذه و يسمى ذلك في المتعارف علامة، و ليس ختماً تشبيهاً له بأثر الخاتم الآصفي في النقش و من هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته و خطه الذي ينفذ بهما أحكامه و منه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً و يستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى: يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي. فكنى له بالخاتم في الوزارة لما كانت العلامة على الرسائل و الصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم و يشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها و كتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك و معنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره و يحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه و يجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم و على المودوعات و هو من السداد كما مر و هو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم و أول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب و صير المائة مائتين و رفع زياد حسابه فأنكرها معاوية و طلب بها عمر و حبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله و اتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم. ذكره الطبري و قال آخرون و حزم الكتب و لم تكن تحزم أي جعل لها السداد و ديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان و الختم عليها إما بالعلامة أو بالحزم و قد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال و الحزم للكتب يكون إما بدس الورق كما في عرف كتاب المغرب و إما بإلصاق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق و قد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه و الإطلاع على ما فيه فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع و يختمون عليها بخاتمه نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النقش في الشمع و كان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتمه منقوش أيضاً قد غمس في مداف من الطين معد لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النقش عليه و كان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم و كان يجلب من سيراف فيظهر أنه مخصوص بها فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد و الحزم للكتب خاص بديوان الرسائل و كان ذلك للوزير في الدولة العباسية ثم اختلف العرف و صار لمن إليه الترسيل و ديوان الكتاب في الدولة ثم صاروا في دول المغرب يعدون من علامات الملك و شاراته الخاتم للإصبع فيستجيدون صوغه من الذهب و يرصعونه بالفصوص من الياقوت و الفيروزج و الزمرد و يلبسه السلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة و القضيب في الدولة العباسية و المظلة في الدولة العبيدية و الله مصرف الأمور بحكمه.
الطراز: من أبهة الملك و السلطان و مذاهب الدول إلى ترسم أسماؤهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً و إسداءً بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك و وضعه في صناعة نسجهم فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته و كان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك و أشكالهم أو أشكال و صور معينة لذلك ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات. و كان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور و أفخم الأحوال و كانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز لذلك و كان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز، ينظر في أمور الصباغ و الآلة و الحاكة فيها و إجراء أرزاقهم و تسهيل آلاتهم و مشارفة أعمالهم و كانوا يقلدون ذلك لخواص دولتيهم و ثقات مواليهم و كذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس و الطوائف من بعدهم و في دولة العبيديين بمصر و من كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف و التفنن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء و تعددت الدول تعطلت هذه الوظيفة و الولاية عليها من أكثر الدول بالجملة و لما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة لم يأخذوا بذلك أول دولتهم لما كانوا عليه من منازع الديانة و السذاجة التي لقنوها عن إمامهم محمد بن تومرت المهدي و كانوا يتورعون عن لباس الحرير و الذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم و استدرك منها أعقابهم آخر الدولة طرفاً لم يكن بتلك النباهة و أما لهذا العهد، فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها و شموخها رسماً جليلاً لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس و اتبع هو في ذلك ملوك الطوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر. و أما دولة الترك بمصر و الشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم و عمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم و قصورهم و ليست من وظائف دولتهم و إنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير و من الذهب الخالص و يسمونه المزركش لفظة أعجمية و يرسم اسم السلطان أو الأمير عليه و يعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها و الله مقدر الليل و النهار و الله خير الوارثين.

الفساطيط و ا لسياج
اعلم أن من شارات الملك و ترفه اتخاذ الأخبية و الفساطيط و الفازات من ثياب الكتان و الصوف و القطن فيباهى بها في الأسفار و تنوع منها الألوان ما بين كبير و صغير على نسبة الدولة في الثروة و اليسار و إنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك و كان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر و الصوف و لم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم فكانت أسفارهم لغزواتهم و حروبهم بظعونهم و سائر حللهم و أحيائهم من الأهل و الولد كما هو شأن العرب لهذا العهد و كانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب و لذلك ما كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على أثره و أن يقيموا إذا ظعن.
و نقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباغ و قصتهما في إحراق فساطيط روح و خيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة. و من هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب فإنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم بما له من العصبية الحائلة دون ذلك و لذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته و صرامته فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة و البذخ و نزلوا المدن و الأمصار و انتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور و من ظهر الخف إلى ظهر الحافر اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتاً مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء و المستطيلة و المربعة و يحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال و الزينة و يدير الأمير و القائد للعساكر على فساطيطه و فازاته من بينهم سياجاً من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر الذي هو لسان أهله أفراك بالكاف و القاف و يختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. و أما في المشرق فيتخذه كل أمير و إن كان دون السلطان ثم جنحت الدعة بالنساء و الولدان إلى المقام بقصورهم و منازلهم فخف لذلك ظهرهم و تقاربت السياج بين منازل العسكر و اجتمع الجيش و السلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهواً أنيقاً لاختلاف ألوانه و استمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها و ترفها. و كذا كانت دولة الموحدين و زناتة التي أظلتنا كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام و القياطين حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف و سكنى القصور و عادوا إلى سكنى الأخبية و الفساطيط بلغوا من ذلك فوق ما أرادوه و هو من الترف بمكان إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصيحة و لخفتهم من الأهل و الولد الذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر و الله القوي العزيز.

المقصورة للصلاة و الدعاء في الخطبة
و هما من الأمور الخلافية و من شارات الملك الإسلامي و لم يعرف في غير دول الإسلام. فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب فيحوزه و ما يليه فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي و القصة معروفة و قيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما و صارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة و هي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول و الاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها و ما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها، و عند افتراق الدولة العباسية و تعدد الدول بالمشرق و كذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية و تعدد ملوك الطوائف و أما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس و بنو حماد بالقلعة ثم ملك الموحدين سائر المغرب و الأندلس و محوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم و لما استفحلت الدولة و أخذت بحظها من الترف و جاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة و بقيت من بعده سنة لملوك المغرب و الأندلس و هكذا كان الشأن في سائر الدول سنة الله في عباده.
و أما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم و الرضى عن أصحابه و أول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر و أول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته. و هو بالبصرة عامل له عليها فقال اللهم انصر علياً على الحق و اتصل العمل على ذلك فيما بعد و بعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً و المسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك إلا ما كسرته فلما حدثت الأبهة و حدث في الخلفاء المانع من الخطبة و الصلاة استنابوا فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه و دعاءً له بما جعل الله مصلحة العالم فيه و لأن تلك الساعة مظنة للإجابة و لما ثبت عن السلف في قولهم من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان و كان الخليفة يفرد بذلك فلما جاء الحجر و الاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة في ذلك و يشاد باسمهم عقب اسمه و ذهب ذلك بذهاب تلك الدول و صار الأمر إلى اختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه و حظر أن يشاركه فيه أحد أو يسمو إليه و كثيراً ما يغفل المعاهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة و مناحي البداوة في التغافل و الخشونة و يقنعون بالدعاء على الإبهام و الإجمال لمن ولي أمور المسلمين و يسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر و لا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه و التصريح باسمه يحكى أن يغمراسن بن زيان عاهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا و كذلك يعقوب بن عبد الحق عاهد دولة بني مرين حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص و ثالث ملوكهم و تخلف بعض أيامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له و كان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته و هكذا شأن الدول في بدايتها و تمكنها في الغضاضة و البداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم و نظروا في أعطاف ملكهم و استتموا شيات الحضارة و مفاني البذخ و الأبهة انتحلوا جميع هذه السمات و تفننوا فيها و تجاروا إلى غايتها و أنفوا من المشاركة فيها و جزعوا من افتقادها و خلو دولتهم من أثارها و العالم بستان و الله على كل شيء رقيب.
الفصل السابع و الثلاثون في الحروب و مذاهب الأمم و ترتيبها
اعلم أن الحروب و أنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ براها الله و أصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض و يتعصب لكل منها أهل عصبيه فإذا تذامروا لذلك و توافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام و الأخرى تدافع كانت الحرب و هو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة و لا جيل و سبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة و منافسة. و إما عدوان و إما غضب لله ولدينه و أما غضب للملك و سعي في تمهيده فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة و العشائر المتناظرة و الثاني و هو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب و الترك و التركمان و الأكراد و أشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم و معاشهم فيما بأيدي غيرهم و من دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب و لا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة و لا ملك و إنما همهم و نصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم و الثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد و الرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها و المانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب الصنفان الأولان منها حروب بغي و فتنة و الصنفان الأخيران حروب جهاد و عدل و صفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين نوع بالزحف صفوفاً و نوع بالكر و الفر أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم و أما الذي بالكر و الفر فهو قتال العرب و البربر من أهل المغرب و قتال الزحف أوثق و أشد من قتال الكر و الفر و ذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف و تسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة و يمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً، فلذلك تكون أثبت عند المصالح و أصدق في القتال و أرهب للعدو. لأنه كالحائط الممتد و القصر المشيد لا يطمع في إزالته و في التنزيل إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات و في الحديث الكريم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضة بعضاً و من هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات و تحريم التولي يوم الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف و باء بإثم الهزيمة إن وقعت و صار كأنه جرها على المسلمين و أمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة و تعديها إلى الدين بخرق سياجه فعد من الكبائر و يظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع و أما قتال الكر و الفر فليس فيه من الشدة و الأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر و الفر و يقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد. ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش و العساكر أقساماً يسمونها كراديس و يسوون في كل كردوس صفوفه ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة و حشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب و اعتوروا مع عدوهم الطعن و الضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء و جهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً و يضمون المتعارفين بعضهم لبعض و يرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع و رئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب و يسمون هذا الترتيب التعبئة و هو مذكور في أخبار فارس و الروم و الدولتين و صدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده و رايته و شعاره و يسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر ناحية اليمين عن موقف الملك و على سمته يسمونه الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمونه الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة و يقف الملك و أصحابه في الوسط بين هذه الأربع و يسمون موقفه القلب فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم أما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم و اليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة و الكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة و انظر ذلك في أخبار الفتوحات و أخبار الدولتين بالمشرق و كيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه و عين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه و كما هو معروف في أخباره و كان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه و هو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة و يعرف كل واحد منهم قرنة و يناديه في حومة الحرب باسمه و لقبه فاستغنى عن تلك التعبئة.
و من مذاهب أهل الكر و الفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات و الحيوانات العجم فيتخذونها ملجأً للخيالة في كرهم و فرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب و أقرب إلى الغلب و قد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً و شدة فقد كان الفرس و هم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب و يحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة و السلاح و الرايات و يصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم و يزداد وثوقهم و انظر ما وقع من ذلك في القادسية و إن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم و بعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت و نكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك و انهزموا في اليوم الرابع. و أما الروم و ملوك القوط بالأندلس و أكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب و يحف به من خدمه و حاشيته و جنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه و ترفع الرايات في أركان السرير و يحدق به سياج آخر من الرماة و الرجالة فيعظم هيكل السرير و يصير فئة للمقاتلة و ملجأ للكر و الفر و جعل ذلك الفرس أيام القادسية و كان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى اختلفت صفوف فارس و خالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات و قتل. و أما أهل الكر و الفر من العرب و أكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم و الظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم و يسمونها المجبوذة و ليس أمة من الأمم إلا و هي تفعل في حروبها و تراه أوثق في الجولة و آمن من الغرة و الهزيمة و هو أمر مشاهد و قد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة و اعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال و الفساطيط يجعلونها ساقةً من خلفهم و لا تغني غناء الفيلة و الإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم و مستشعرة للفرار في المواقف. و كان الحرب أول الإسلام كله زحفاً و كان العرب إنما يعرفون الكر و الفر لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. و الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر، و لما رسخ فيهم من الإيمان و الزحف إلى الاستماتة أقرب. و أول من أبطل الصف في الحروب و صار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي و الجبيري بعده قال الطبري لما ذكر قتال الجبيري فولى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري و يلقب أبا الذلفاء قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس و أبطل الصف من يومئذ انتهى. فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف و ذلك أنها حينما كانت بدوية و سكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل و سكنى النساء و الولدان معهم في الأحياء فلما حصلوا على ترف الملك و ألفوا سكنى القصور و الحواضر و تركوا شأن البادية و القفر نسوا لذلك عهد الإبل و الظعائن و صعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك و الترف على اتخاذ الفساطيط و الأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال و الأبنية و كان ذلك صفتهم في الحرب و لا يغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل و المال فيخف الصبر من أجل ذلك و تصرفهم الهيعات و تخرم صفوفهم. و لما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر و تأكده في قتال الكر و الفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم و اختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر و الفر و السلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف و إلا أجفلوا على طريقة أهل الكر و الفر فانهزم السلطان و العساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف و هم الإفرنج و يرتبون مصافهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. و إنهم استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان و الإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك لأن عادتهم في القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب و البربر و قتالهم على الطاعة و أما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالاتهم على المسلمين هذا هو الواقع لهذا العهد و قد أ بدينا سببه و الله بكل شيء عليم. و بلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام و إن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف و أنهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفاً وراء صف و يترجلون عن خيولهم و يفرغون سهامهم بين أيديهم ثم يتناضلون جلوساً و كل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى و هي تعبئة محكمة غريبة. و كان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف حذراً من معرة البيات و الهجوم على العسكر بالليل لما في ظلمته و وحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار و تجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر و وقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا و ضربوا أبنيتهم و يديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا. و كانت للدول في أمثال هذا قوة و عليه اقتدار باحتشاد الرجال و جمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران و ضخامة الملك فلما خرب العمران و تبعه ضعف الدول و قلة الجنود و عدم الفعلة نسي هذا الشأن جملة كأنه لم يكن و الله خير القادرين. و انظر وصية علي رضي الله عنه و تحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب و لم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و التووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة و غضوا الأبصار فإنه أربط للجأش و أسكن للقلوب و اخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار و أقيموا راياتكم فلا تميلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم و استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر و قال الأشتر يومئذ يحرص الأزد: عضوا على النواجذ من الأضراس و استقبلوا القوم بهامكم و شدوا شدة قوم موتورين من يثأرون بآبائهم و إخوانهم حناقاً على عدوهم و قد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر و لا يلحقهم في الدنيا عار و قد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة و أهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف و يصف ثباته في حرب شهدها و يذكره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها.
يا أيها الملأ الذي يتقنعمن منكم الملك الهمام الأروع
و من الذي غدر العدو به دجى       فانفض كل و هو لا يتزعزع
تمضي الفوارس و الطعان يصدها       عنه و يدمرها الوفاء فترجع
و الليل من وضح الترائك إنهصبح على هام الجيوش يلمع
أنى فزعتم يا بني صنهاجةو إليكم في الروع كان المفزع
إنسان عين لم يصبها منكمحضن و قلب أسلمته الأضلع
و صددتم عن تاشفين و إنهلعقابه لو شاء فيكم موضع
ما أنتم إلا أسود خفية      كل لكل كريهة مستطلع
يا تاشفين أقم لجيشك عذرهبالليل و العذر الذي لا يدفع
و منها في سياسة الحرب
أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع
لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين و تنفع
و البس من الحلق المضاعفة التي       وصى بها صنع الصنائع تبع
و الهندواني الرقيق فإنهأمضى على حد الدلاص و أقطع
و اركب من الخيل السوابق عدة حصناً حصيناً ليس فيه مدفع
خندق عليك إذا ضربت محلة      سيان تتبع ظافراً أو تتبع
و الواد لا تعبره و انزل عنده بين العدو و بين جيشك يقطع
و اجعل مناجزة الجيوش عشية و وراءك الصدق الذي هو أمنع
و إذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توشع
و اصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع
و اجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لا تخدع
لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع
قوله و اصدمه أول وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس و العراق فقال له اسمع و أطع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أشركهم في الأمر و لا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب و لا يصلح لها الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة و الكف و قال له في أخرى: إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته في الحرب و في التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع و الله لولا ذلك لأمرته لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث هذا كلام عمر و هو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب و ذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه و الله تعالى اعلم. و لا وثوق في الحرب بالظفر و إن حصلت أسبابه من العدة و العديد و إنما الظفر فيها و الغلب من قبيل البحث و الإتفاق و بيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة و هي الجيوش و وفورها و كمال الأسلحة و استجادتها و كثرة الشجعان و ترتيب المصاف و منه صدق القتال و ما جرى مجرى ذلك و من أمور خفية و هي إما خداع البشر و حيلهم في الإرجاف و التشانيع التي يقع بها التخذيل و في التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوههم المنخفض لذلك و في الكمون في الغياض و مطمئن الأرض و التواري بالكدى حول العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة و قد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة و أمثال ذلك و إما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة و أكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة و لذلك قال صلى الله عليه و سلم: الحرب خدعة و من أمثال العرب رب حيلة أنفع من قبيلة فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة و وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه فاعتبره و تفهم من وقع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه و سلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر و ما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل و غلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإن الله سبحانه و تعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهرموا معجزة لرسوله صلى الله عليه و سلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها أنه خفي عن العيون. و قد ذكر الطرطوشي: أن من أسباب الغلب في الحرب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير و في الجالب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد و لو بواحد يكون له الغلب و أعاد في ذلك و أبدى و هو راجع إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا و ليس بصحيح. و إنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم و في الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد و يكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهمه و اعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي و لم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلة و بلدة و أنهم إنما يرون ذلك الدفاع و الحماية و المطالبة إلى الوحدان و الجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية و لا نسباً و قد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا و أمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش في العدة و صدق القتال و كثرة الأسلحة و ما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب و نحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لا يعارض الأسباب الخفية من الحيل و الخداع و لا الأمور السماوية من الرعب و الخذلان الإلهي فافهمه و تفهم أحوال الكون و الله مقدر الليل و النهار. و يلحق بمعنى الغلب في الحروب و أن أسبابه خفية و غير طبيعية حال الشهرة و الصيت فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك و العلماء و الصالحين و المنتحلين للفصائل على العموم و كثير ممن اشتهر بالشر و هو بخلافه و كثير ممن تجاوزت عنه الشهرة و هو أحق بها و أهلها و قد تصادف موضعها و تكون طبقاً على صاحبها و السبب في ذلك أن الشهرة و الصيت إنما هما بالإخبار و الإخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل و يدخلها التعصب و التشييع و يدخلها الأوهام و يدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس و التصنع أو لجهل الناقل و يدخلها التقرب لأصحاب التجلة و المراتب الدنيوية بالثناء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك و النفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطاولون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة و ليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل و لا منافسين في أهلها و أين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه و تكون غير مطابقة و كل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثامن و الثلاثون في الجباية و سبب قلتها و كثرتها
إعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة و آخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة و السبب في ذلك أن الدولة إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات و الخراج و الجزية و هي قليلة الوزائع لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت و كذا زكاة الحبوب و الماشية و كذا الجزية و الخراج و جميع المغارم الشرعية و هي حدود لا تتعدى و إن كانت على سنن التغلب و العصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم و البداوة تقتضي المسامحة و المكارمة و خفض الجناح و التجافي عن أموال الناس و الغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة و الوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها و إذا قلت الوزائع و الوظائف على الرعايا نشطوا للعمل و رغبوا فيه فيكثر الاعتمار و يتزايد لحصول الاغتباط بقلة المغرم و إذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف و الوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها فإذا استمرت الدولة و اتصلت و تعاقب ملوكها واحداً بعد واحد و اتصفوا بالكيس و ذهب سر البداوة و السذاجة و خلقها من الإغضاء و التجافي و جاء الملك العضوض و الحضارة الداعية إلى الكيس و تخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق و تكثرت عوائدهم و حوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم و الترف فيكثرون الوظائف و الوزائع حينئذ على الرعايا و الأكرة و الفلاحين و سائر أهل المغارم و يزيدون في كل وظيفة و وزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية و يضعون المكوس على المبايعات و في الأبواب كما نذكر بعد ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف و كثرة الحاجات و الإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا و تهضمهم و تصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً و لم يشعر أحد بمن زادها على التعيين و لا من هو واضعها إنما ثبت على الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه و مغارمه و بين ثمرته و فائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها و ربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية و يحسبونه جبراً لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة و وزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع و لا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار و كثرة المغارم و عدم وفاء الفائدة المرجوة به فلا تزال الجملة في نقص و مقدار الوزائع و الوظائف في زيادة لما يفتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار و يعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها و إذا فهمت ذلك علمت إلى أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه و الله سبحانه و تعالى مالك الأمور كلها و بيده ملكوت كل شيء.

الفصل التاسع و الثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
إعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات يعدم الترف و عوائده فيكون خرجها و إنفاقها قليلاً فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف و عوائدها و تجري على نهج الدول السابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدولة و يكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته و كثرة عطائه و لا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدولة إلى زيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء و السلطان من النفقة فيزيد في مقدار الوظائف و الوزائع أولاً كما قلناه ثم يزيد الخراج و الحاجات و التدريج في عوائد الترف و في العطاء للحامية و يدرك الدولة الهرم و تضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال و القاصية فتقل الجباية و تكثر العوائد و يكثر بكثرتها أرزاق الجند و عطاؤهم فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البياعات و يفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق و على أعيان السلع في أموال المدينة و هو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه طرق الناس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش و الحامية و ربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال و يؤذن ذلك باختلال العمران و يعود على الدولة و لا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل. و قد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية و العبيدية كثير و فرضت المغارم حتى على الحاج في الموسم و أسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملة و أعاضها بآثار الخير و كذلك وقع بالأندلس لعهد الطوائف حتى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين و كذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقية لهذا العهد حين استبد بها رؤساؤها و الله تعالى أعلم.

الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا و مفسدة للجباية
اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف و كثرة العوائد و النفقات و قصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها و نفقاتها و احتاجت إلى مزيد المال و الجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا و أسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله و تارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل و تارة بمقاسمة العمال و الجباة و امتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان و تارة باستحداث التجارة و الفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار و الفلاحين يحصلون على الفوائد و الغلات مع يسارة أموالهم و أن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان و النبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق و يحسبون ذلك من إدرار الجباية و تكثير الفوائد و هو غلط عظيم و إدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة فأولاً مضايقة الفلاحين و التجار في شراء الحيوان و البضائع و تيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون و مزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب و إذا رافقهم السلطان في ذلك و ماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته و يدخل على النفوس من ذلك غم و نكد ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثم إذا حصل فوائد الفلاحة و مغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات و حصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق و لا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصنافى من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع و لا يرضون في أثمانها إلا القيم و أزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم و تبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة و يمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم و معاشهم و ربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. و ربما يتكرر ذلك على التاجر و الفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه و يتعدد ذلك و يتكرر و يدخل به على الرعايا من العنت و المضايقة و فساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة و يؤدي إلى فساد الجباية فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين و التجار و لا سيما بعد وضع المكوس و نمو الجباية بها فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة و قعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش و إذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية و بين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل ثم إنه و لو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس و لو كان غيره في تلك الصفقات لكال تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية ثم فيه التعرض لأهل عمرانه و اختلال الدولة بفسادهم و نقصهم فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة و التجارة نقصت و تلاشت بالنفقات و كان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك و كان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة ثم يختارونه من أهل الفضل و الدين و الأدب و السخاء و الشجاعة و الكرم ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل و أن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه و لا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع و أن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير و لا مصلحة. و اعلم أن السلطان لا ينمي ماله و لا يدر موجوده إلا الجباية و إدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال و النظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم و تنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال و تنميتها فتعظم منها جباية السلطان و أما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا و فساد للجباية و نقص للعمارة و قد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة و الفلاحة من الأمراء و المتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات و السلع من أربابها الواردين على بلدهم و يفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون و يبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن و هذه أشد من الأولى و أقرب إلى فساد الرعية و اختلال أحوالهم و ربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التجار و الفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها فيحمل السلطان على ذلك و يضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً و لا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم و لا مكس فإنها أجدر بنمو الأموال و أسرع في تثميره و لا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء و يعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته و سلطانه و الله يلهمنا رشد أنفسنا و ينفعنا بصالح الأعمال و الله تعالى أعلم.

الفصل الحادي و الأربعون في أن ثروة السلطان و حاشيته إنما تكون في وسط الدولة
و السبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل و العصبية بمقدار غنائهم و عصبيتهم و لأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة و له إليهم حاجة فلا يطير في سهمانه من الجباية إلا الأقل من حاجته فتجد حاشيته لذلك و أذياله من الوزراء و الكتاب و الموالي متملقين في الغالب و جاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم و نطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته فإذا استفحلت طبيعة الملك و حصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم و تقل حظوظهم ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم و صار الموالي و الصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة و تمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها و يحتوي على الأموال و يحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته و تمتلئ خزائنه و يتسع نطاق جاهه و يعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته و ذويه من وزير و كاتب و حاجب و مولى و شرطي و يتسع جاههم و يقتنون الأموال و يتأثلونها ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية و فناء القليل المعاهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان و الأنصار لكثرة الخوارج و المنازعين و الثوار و توهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه و أعوانه و هم أرباب السيوف و أهل العصبيات و أنفق خزائنه و حاصله في مهمات الدولة و قلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء و الإنفاق فيقل الخراج و تشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة و الترف عن الخواص و الحجاب و الكتاب بتقلص الجاه عنهم و ضيق نطاقه على صاحب الدولة ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال و تنفق أبناء البطانة و الحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة و يقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم و سلفهم من المناصحة و يرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه و بجاههم فيصطلمها و ينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً و واحداً بعد واحد على نسبة رتبهم و تنكر الدولة لهم و يعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها و رجالاتها و أهل الثروة و النعمة من بطانتها و يتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله و يرفعوه. و انظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة و بني برمك و بني سهل و بني طاهر و أمثالهم ثم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بنى شهيد و بنى أبي عبدة و بنى حدير و بني برد و أمثالهم و كذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا سنة الله التي قد خلت في عباده.
فصل: و لما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب و التخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر و يرون أنه أهنأ لهم و أسلم في إنفاقه و حصول ثمرته و هو من الأغلاط الفاحشة و الأوهام المفسدة لأحوالهم و دنياهم و اعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين و لا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه و إتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها و لا سيما عند استفحال الدولة و ضيق نطاقها و ما يعرض فيها من البعد عن المجد و الخلال و التخلق بالشر و أما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان و حاشيته و أهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه و بين ذلك. أما أولا فلما يراه الملوك أن ذويهم و حاشيتهم بل و سائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنا بأسرارهم و أحوالهم أن يطلع عليها أحد. و غيره من خدمته لسواهم و لقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم و ما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية و رجوعها إلى الطوائف و أما ثانيا فلأنهم و إن سمحوا بحل ربقته فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها و في ظل جاهها، فتخوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال و التقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر و هو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر و ينتزعونه بالإرهاب و التخويف تعريضا أو بالقهر ظاهرا لما يرون أنه مال الجباية و الدول و أنه مستحق للإنفاق في المصالح و إذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة و اليسار المتكسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية و الدول التي تجد السبيل إليه بالشرع و العادة و لقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بأفريقة الخروج عن عهدة الملك و اللحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده و ركب السفين هن هنالك و خلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت و الذخيرة و باع كل ما كان بخزائنهم من المتاع و العقار و الجوهر حتى الكتب
.... يتّبع .... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق