و لقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال: و الذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء و قلبه نقي إلا دخل الجنة يشير إلى الفريقين نقله الطبري و غيره فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم و لا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت و أقوالهم و أفعالهم إنما هي عن المستندات و عدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق و لا عرج عليه و إذا نظر ت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان و اختلاف الصحابة من بعد و علمت أنها كانت فتنةً ابتلى الله بها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم و ملكهم أرضهم و ديارهم و نزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة و الكوفة و الشام و مصر و كان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاةً لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه و سلم و لا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهلية من الجفاء و العصبية و التفاخر و البعد عن سكينة الإيمان و إذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين و الأنصار من قريش وكنانة و ثقيف و هذيل و أهل الحجاز و يثرب السابقين الأولين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك و غضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم و كثرتهم ومصادمة فارس و الروم مثل قبائل بكر بن وائل و عبد القيس بن ربيعة و قبائل كندة و الأزد من اليمن و تميم و قيس من مضر فصاروا إلى الغض من قريش و الأنفة عليهم، و التمريض في طاعتهم و التعلل في ذلك بالتظلم منهم و الاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن السوية و العدل في العدل عن السوية و فشت المقالة بذلك و انتهت إلى المدينة و هم من علمت فأعظموه و أبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
بعث ابن عمر و محمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و أمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً و لا رأوا عليهم طعناً و أدوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار و مازالت الشناعات تنمو و رمي الوليد بن عقبة و هو على الكوفة بشرب الخمر و شهد عليه جماعة منهم و حده عثمان و عزلة ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال و شكوا إلى عائشة و علي و الزبير و طلحة و عزل لهم عثمان بعض العمال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوه بالطريق و ردوه معزولاً ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة و نقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله و هو متمسك بالاجتهاد و هم أيضاً كذلك ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان و هم يضمرون خلاف ذلك من قتله و فيهم من البصرة و الكوفة و مصر وقام معهم في ذلك علي و عائشة و الزبير و طلحة و غيرهم يحاولون تسكين الأمور و رجوع عثمان إلى رأيهم و عزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً ثم رجعوا و قد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم و حلف عثمان على ذلك فقالوا مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس و قتلوه وانفتح باب الفتنة فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع و كلهم كانوا مهتمين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته.
ثم نظروا بعد هذا الواقع و اجتهدوا و الله مطلع على أحوالهم و عالم بهم و نحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم و مقالات الصادق فيهم و أما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك و ظنها من نفسه بأهليته و شوكته فأما الأهلية فكانت كما ظن و زيادة و أما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش و عصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش و سائر الناس و لا ينكرونه و إنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق و أمر الوحي و تردد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم و ذهبت عصبية الجاهلية و منازعها و نسيت و لم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية و الدفاع ينتفع بها في إقامة الدين و جهاد المشركين و الدين فيها محكم و العادة معزولة حتى إذا انقطع أمر النبؤة و الخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت و لمن كانت و أصبحت مصر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه و أما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه و كان ظنه القدرة على ذلك و لقد عذله ابن العباس و ابن الزبير و ابن عمر و ابن الحنفية أخوه و غيره في مسيره إلى الكوفة و علموا غلطه في ذلك و لم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله.
و أما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز و مع يزيد بالشام والعراق و من التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد و إن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج و الدماء فأقصروا عن ذلك و لم يتابعوا الحسين و لا أنكروا عليه و لا أثموه لأنه مجتهد و هو أسوة المجتهدين و لا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين و قعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة و كانوا مع يزيد و لم يروا الخروج عليه و كان الحسين يستشهد بهم و هو بكربلاء على فصله و حقه و يقول سلوا جابر بن عبد الله و أبا سعيد الخدري و أنس بن مالك و سهل بن سعيد و زيد بن أرقم و أمثالهم و لم ينكر عليهم قعودهم عن نصره و لا تعرض لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد و إن كان هو على اجتهاد و يكون ذلك كما يحد الشافعي و المالكي و الحنفي على شرب النبيذ و اعلم أن الأمر ليس كذلك و قتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء و إن كان خلافه عن اجتهادهم و إنما انفرد بقتاله يزيد و أصحابه و لا تقولن إن يزيد و إن كان فاسقاً و لم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة و اعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً و قتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل و هو مفقود في مسئلتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد و لا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه و الحسين فيها شهيد مثاب و هو على حق و اجتهاد و الصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً و اجتهاد و قد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم و القواصم ما معناه:
إن الحسين قتل بشرع جده و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل و من أعدل من الحسين في زمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء و أما ابن الزبير فإنه رأى في منامه ما رآه الحسين و ظن كما ظن و غلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية و لا إسلام. و القول بتعين الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه. لأن الإجماع هنالك قضى لنا به و لم نجده ها هنا. و أما يزيد فعين خطأه فسقه. و عبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة و ناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله و عدول ابن عباس و ابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير و هم معه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنه لم يحضرها أهل العقد و الحل كبيعة مروان و ابن الزبير على خلاف ذلك و الكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر و إن لم يتعين في جهة منهما و القتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه و قوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده و تحريه الحق هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة و التابعين فهم خيار الأمة و إذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة و النبي صلى الله عليه و سلم يقول: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب فجعل الخيرة و هي العدالة مختصة بالقرن الأول و الذي يليه فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم و لا يشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع مهم و التمس لهم مذاهب الحق و طرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك و ما اختلفوا إلا عن بينة و ما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم و يجعله إمامه و هادية و دليله فافهم ذلك و تبين حكمه الله في خلقه و أكوانه و اعلم أنه على كل شيء قدير و إليه الملجأ و المصير و الله تعالى أعلم.
الفصل الحادي و الثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين و سياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها و حمل الناس عليها و أما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري و قد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر و أن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت و قدمنا أن الملك و سطوته كاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميا و يكون من توابعها و قد ينفر إذا كان في غير الملة و له على كل حال مراتب خادمة و وظائف تابعة تتعين خططاً و تتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عاليةً عليهم فيتم بذلك أمره و يحسن قيامه بسلطانه و أما المنصب الخلافي و إن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يخص بخطط و مراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة و نرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية.
فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة و الفتيا و لقضاء و الجهاد و الحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير و الأصل الجامع و هذه كلها متفرعة عنها و داخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية و الدنيوية و تنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم.
فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها و أرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. و لقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ؟ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس و إذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة. و أخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس و الجمعة و العيدين و الخسوفين و الاستسقاء و تعين ذلك إنما هو من طريق الأولى و الاستحسان و لئلاً يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً و أما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران و لا تحتاج إلى نظر خليفة و لا سلطانا و أحكام هذه الولاية و شروطها و المولى فيها معروفة في كتب الفقه و مبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي و غيره فلا نطول بذكرها و لقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس. و انظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاة و ترصدهم لذلك في أوقاتها. يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها و أنهم لم يكونوا مستخلفين فيها. و كذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها و استعظاماً لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه قد جعلت لك حجابهً يأبى إلا عن ثلاثة صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير و الأذان بالصلاة فإنه داع إلى الله و البريد فال في تأخيره فساد القاصية فلما جاءت طبيعة الملك و عوارضه من الغلظة و الترفع عن مساواة الناس في دينهم و دنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان و في الصلوات العامة كالعيدين و الجمعة إشارةً و تنويهاً فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس و العبيديين صدر دولتهم.
و أما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم و التدريس و رد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك و منع من ليس أهلا لها و زجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم و بثه و الجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها و النظر في أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك و إن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك. على إذن. على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين و المدرسين زاجر من نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي و يضل به المسترشد و في الأثر أجراكم على الفتيا أجراكم على جراثيم جهنم فللسلطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد.
و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي و قطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجاً في عمومها و كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء إلى من سواهم. و أول من دفعه إلى غيره و فوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء معه بالمدينة و ولى شريحاً بالبصرة و ولى أبا موسى الأشعري بالكوفة و كتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه يقول أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأمثال و الأشباه و قس الأمور بنظائرها و اجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينةً أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت القضاء عليه فإن ذلك أنفى للشك و أجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرى عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء، فإن الله سبحانه عفا عن الإيمان و درأ بالبينات. و إياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذكر و السلام.
انتهى كتاب عمر و إنما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم و إن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة و كثرة أشغالها من الجهاد و الفتوحات و سد الثغور وحماية البيضة، و لم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس و استخلفوا فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم و كانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء و لا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك. و أما أحكام هذا المنصب و شروطه فمعروفة في كتب الفقه و خصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء و الملوك بالسياسة الكبرى و استقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين و اليتامى و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين و أوقافهم و تزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات و الأبنية و تصفح الشهود و الأمناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالة و الجرح ليحصل له الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته. و قد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم و هي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة و نصفة القضاء و تحتاج إلى علو يد و عظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين و تزجر المتعدي و كأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه و يكون نظره في البينات و التقرير و اعتماد الأمارات و القرائن و تأخير الحكم إلى استجلاء الحق و حمل الخصمين على الصلح و استحلاف الشهود و ذلك أوسع من نظر القاضي.
و كان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس و ربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي أدريس الخولاني و كما فعله المأمون ليحيى بن أكثم و المعتصم لأحمد بن أبي داود و ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف و كان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرض الروم و كذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس فكانت توليه هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب. و كان أيضاً النظر في الجرائم و إقامة الحدود في الدولة العباسية و الأموية بالأندلس و العبيديين بمصر و المغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة و هي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً و يفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم و يقيم الحدود الثابتة في مالها و يحكم في القود و القصاص و يقيم التعزيز و التأديب في حق من لم ينته عن الجريمة.
ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن و انقسمت وظيفة الشرطة قسمين منها وظيفة التهمة على الجرائم و إقامة حدودها و مباشرة القطع و القصاص حيث يتعين و نصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية و يسمى تارةً باسم الوالي و تارةً باسم الشرطة و بقي قسم التعازير و إقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع ذلك للقاضي مع ما تقدم و صار ذلك من توابع وظيفة ولايته و استقر الأمر لهذا العهد على ذلك و خرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة لأن الأمر لما كان خلافةً دينيةً و هذه الخطة من مراسم الدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب و مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، و لما انقرض شأن الخلافة و طورها و صار الأمر كله ملكاً أو سلطانا صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك و لا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب و صار الملك لسواهم من أمم الترك و البربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها. و ذلك أن العرب كانوا يرون أن الشريعة دينهم و هل النبي صلى الله عليه و سلم منهم و أحكامه و شرائعه نحلتهم بين الأمم و طريقهم، و غيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة.
و كان أولئك المتأهلون بما أخذهم ترف الدول منذ مئتين من السنين قد نسوا عهد البداوة و خشونتها و التبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم و دعتهم، و قلة الممانعة عن أنفسهم، و صارت هذه الخطط في الدول الملوكية من بعد الخلفاء مختصةً بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار و نزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم و ما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف و الدعة، البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية، و صار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة و أخذها بأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. و لم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، و إنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، و لم يكن لهم فيها من الحل و العقد شيء، و أن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل و العقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له و لا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، و تلقي الفتاوى منهم فنعم و الله الموفق. و ربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك و أن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء و القضاة من الشورى مرجوح و قد قال صلى الله عليه و سلم: العلماء ورثة الأنبياء فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه و حكم الملك و السلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران و إلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى و الحل و العقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك، و أما من لا عصبية له و لا يملك من أمر نفسه شيئاً و لا من حمايتها و إنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. و أما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية و القيام على معرفة أحوالها وأحكامها و إنما إكرامهم من تبرعات الملوك و الأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين و تعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب و أما قوله صلى الله عليه و سلم العلماء ورثة الأنبياء فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد و ما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات و كيفية القضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم و لا يتصفون إلا بالأقل منها و في بعض الأحوال و السلف رضوان الله عليهم و أهل الدين و الورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها و تحققاً بمذاهبها. فمن حملها اتصافاً و تحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري و من اجتمع له الأمران فهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين و السلف و الأئمة الأربعة و من اقتفى طريقهم و جاء على أثرهم و إذا انفرد واحد من الأمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة و الفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال بنصها علينا في كيفيات العمل و هؤلاء أكثر فقهاء عصرنا إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم.
العدالة: و هي وظيفة دينية تابعة للقضاء و من مواد تصريفه و حقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم و عليهم تحملاً عند الإشهاد و أداء عند التنازع و كتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس و أملاكهم و ديونهم و سائر معاملاتهم و شرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية و البراءة من الجرح ثم القيام بكتب السجلات و العقود من جهة عباراتها و انتظام فصولها و من جهة إحكام شروطها الشرعية و عقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه و لأجل هذه الشروط و ما يحتاج إليه من المران على ذلك و الممارسة له اختص ذلك ببعض العدول و صار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة و ليس كذلك و إنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة و يجب على القاضي تصفح أحوالهم و الكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم و أن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه في ذلك كله و هو ضامن دركه و إذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعبين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار و اشتباه الأحوال و اضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف و لهم في سائر الأمصار دكاكين و مصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد و تقييده بالكتاب و صار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها و بين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح و قد يتواردان و يفترقان و الله تعالى أعلم.
الحسبة و السكة
إما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك و يبحث عن المنكرات و يعزر و يؤدب على قدرها و يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات و منع الحمالين و أهل السفن من الإكثار في الحمل و الحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها و إزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب و غيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين و لا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر و الحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك و يرفع إليه و ليس له إمضاء الحكم في الدعاوي مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش و التدليس في المعايش و غيرها في المكاييل و الموازين و له أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف و أمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة و لا إنفاذ حكم و كأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها و سهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء و قد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر و المغرب و الأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة و صار نظره عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك و أفردت بالولاية.
و أما السكة فهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس و حفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل بها عدداً أو ما يتعلق بذلك و يوصل إليه من جميع الاعتبارات ثم في وضع علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة و الخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد أتخذ لذلك و نقش فيه نقوش خاصة به فيوضع على الدينار بعد أن يقدر ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش و تكون علامة على جودته بحسب الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر و مذاهب الدولة الحاكمة فإن السبك و التخليص في النقود لا يقف عند غاية و إنما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها و سموها إماماً و عياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفاً و النظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة و هي دينية بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة و قد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثم أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية و بقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه و أخرى صارت سلطانيةً فوظيفة الإمارة و الوزارة و الحرب و الخراج صارت سلطانية نتكلم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد وظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه و يدرجون أحكامه غالباً في السلطانيات وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة و رسومها و بالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة و وظائفها في رسوم الملك و السياسة في سائر الدول لهذا العهد و الله مصرف الأمور كيف يشاء.
الفصل الثاني و الثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين و إنه من سمات الخلافة و هو محدث منذ عهد الخلفاء
و ذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه و كان الصحابة رضي الله عنهم و سائر المسلمين يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته و طول إضافته و أنه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة و يذهب منه التمييز بتعدد الإضافات و كثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه و يدعى به مثله و كانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير و هو فعيل من الإمارة و قد كان الجاهلية يدعون النبي صلى الله عليه و سلم أمير مكة و أمير الحجاز و كان الصحابة أيضاً يدعون سعد بن أبي و قاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسية و هم معظم المسلمين يومئذ و اتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس و استصوبوه و دعوه به.
يقال إن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش و قيل عمرو بن العاصي والمغيرة بن شعبة و قيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث و دخل المدينة و هو يسأل عن عمر و يقول أين أمير المؤمنين و سممها أصحابه فاستحسنوه و قالوا أصبت و الله اسمه إنه و الله أمير المؤمنين حقاً فدعوه بذلك و ذهب لقباً له في الناس وتوارثه الخلفاء من بعده سمةً لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلا سائر دولة بني أمية ثم إن الشيعة خصوا علياً باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة وتعريضاً بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم و بدعتهم فخصوه بهذا اللقب و لمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العباس فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له و عقدوا الرايات للحرب على أمره فلما هلك دعي أخوة السفاح بأمير المؤمنين.
و كذا الرافضة بأفريقيا فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي و كانوا أيضاً يدعونه بالإمام و لابنه أبي القاسم من بعده فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين و كذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام و ابنه إدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم و توارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين و جعلوه سمة لمن يملك الحجاز و الشام و العراق و المواطن التي هي ديار العرب و مراكز الدولة و أهل الملة و الفتح و ازداد لذلك في عنفوان الدولة و بذخها لقب آخر الخلفاء يتميز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العباس حجاباً لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السوقة و صوناً لها عن الابتذال فتلقبوا بالسفاح و المنصور و المهدي و الهادي و الرشيد إلى آخر الدولة و اقتفى أثرهم في ذلك العبيديون بأفريقية و مصر و تجافى بنو أمية عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة و السذاجة لأن العروبية و منازعها لم تفارقهم حينئذ و لم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة و أما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب و الملة و البعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية و أنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس حتى إذا جاء عبد الرحمن الداخل الآخر منهم و هو الناصر بن محمد بن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط لأول المائة الرابعة و اشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر و استبداد الموالي و عيثهم في الخلفاء بالعزل و الاستبدال و القتل و السمل ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق و أفريقية و تسمى بأمير المؤمنين و تلقب بالناصر لدين الله. و أخذت من بعده عادة و مذهب لقن عنه و لم يكن لآبائه و سلف قومه. و استمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبية العرب أجمع و ذهب رسم الخلافة و تغلب الموالي من العجم على بني العباس و الصنائع على العبيديين بالقاهرة و صنهاجة على أمراء أفريقية و زناتة على المغرب و ملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية واقتسموه و افترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب و المشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعا باسم السلطان.
فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم يألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم و طاعتهم و حسن ولايتهم مثل شرف الدولة و عضد الدولة و ركن الدولة و معز الدولة و نصير الدولة و نظام الملك و بهاء الدولة و ذخيرة الملك و أمثال هذه و كان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب و تجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها و عدولا عن سماتها المختصة بها شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه و نزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك و علا كعبهم في الدولة و السلطان و تلاشت عصبية الخلافة و اضمحلت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك مثل الناصر و المنصور و زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء و الاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط فيقولون صلاح الدين أسد الدين نور الدين. و أما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة و توزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها و عصبتها فتلقبوا بالناصر و المنصور و المعتمد و المظفر و أمثالها كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم:
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها و معتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
و أما صنهاجة فاقصروا عن الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه مثل نصير الدولة و معز الدولة و اتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين ثم بعدت الشقة بينهم و بين الخلافة و نسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب و اقتصروا على اسم السلطان و كذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة و الغضاضة. و لما محي رسم الخلافة و تعطل دستها ا و قام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمنتونة فملك العدوتين و كان من أهل الخير و الإقتداء نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه فخاطب المستظهر العباسي و أوفد عليه بيعته عبد الله بن العربي و ابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياها على المغرب و تقليده ذلك فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب و استشعار زيهم في لبوسه و رتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفاً و اختصاصاً فاتخذها لقباً و يقال إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدباً مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو و قومه المرابطون من انتحال الدين و اتباع السنة و جاء المهدي على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة و ما يؤول إليه ذلك من التجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعرية و سمي أتباعه الموحدين تعريضاً بذلك النكير و كان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم و أنه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمى بالإمام لما قلناه أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم و أردف بالمعصوم إشارةً إلى مذهبه في عصمة الإمام و تنزه عند اتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين من الشيعة و لما فيها من مشاركة الأغمار و الولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق.
ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين و جرى عليه من بعده خلفاء بنى عبد المؤمن و آل أبى حفص من بعدهم استئثاراً به عمن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك و أنه صاحب الأمر و أولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد لانتقاء عصبية قريش و تلاشيها فكان ذلك دأبهم. و لما انتقض الأمر بالمغرب و انتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة و السذاجة و أتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أولا و لبني أبي حفص من بعدهم ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين و انتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في منازع الملك و تتميماً لمذاهبه وسماته و الله غالب على أمره.
الفصل الثالث و الثلاثون في شرح اسم البابا و البطرك في الملة النصرانية و اسم الكوهن عند اليهود
إعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها و شرائعها و يكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف و النوع الإنساني أيضاً بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم و يزعهم عن مفاسدهم بالقهر و هو المسمى بالملك و الملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة و حمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتخذت فيها الخلافة و الملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً. و أما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة و لا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدين فيها لا يغنيه شيء من سياسة الملك و إنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض و لأمر غير ديني و هو ما اقتضته لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية و إنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم.
و لذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى و يوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنما همهم إقامة دينهم فقط و كان القائم به بينهم يسمى الكوهن كأنه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر الصلاة و القربان و يشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون صلوات الله عليه لأن موسى لم يعقب ثم اختاروا لإقامة السياسة التي هي للبشر بالطبع سبعين شيخاً كانوا يتلون أحكامهم العامة و الكوهن أعظم منهم رتبةً في الدين و أبعد عن شغب الأحكام و اتصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية و تمحضت الشوكة للملك فغلبوا الكنعانين على الأرض التي أورثهم الله بيت المقدس و ما جاورها كما بين لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين و الكنعاننين و الأرمن و أردن و عمان و مأرب و رئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم و أقاموا على ذلك نحواً من أربعمائة سنة و لم تكن لهم صولة الملك و ضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم فطلبوا على لسان شمويل من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولي عليهم طالوت و غلب الأمم و قتل جالوت ملك الفلسطين ثم ملك بعده داود ثم سليمان صلوات الله عليهما و استفحل ملكه وامتد إلى الحجاز ثم أطراف اليمن ثم إلى أطراف بلاد الروم ثم افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبية في الدول كما قدمناه إلى دولتين كانت إحداهما يالجزيرة و الموصل للأسباط العشرة و الأخرى بالقدس و الشام لبني يهوذا و بنيامين.
ثم غلبهم بخت نصر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أولاً الأسباط العشرة ثم ثانياً بني يهوذا و بنت المقدس بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة و خرب مسجدهم و أحرق توراتهم و أمات دينهم و نقلهم إلى أصبهان و بلاد العراق إلى أن ردهم بعض ملوك الكيانية من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنةً من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط و الملك للفرس ثم غلب الإسكندر و بنو يونان على الفرس و صار اليهود في ملكتهم ثم فشل أمر اليونانيين فاعز اليهود عليهم بالعصبية الطبيعية و دفعوهم عن الاستيلاء عليهم و قام بملكهم الكهنة الذين كانوا فيهم من بنى حشمناي و قاتلوا يونان حتى انقرض أمرهم و غلبهم الروم فصاروا تحت أمرهم ثم رجعوا إلى بيت المقدس و فيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي و بقيت دولتهم فحاصروهم مدة ثم افتتحوها عنوة و أفحشوا في القتل و الهدم و التحريق و خربوا بيت المقدس و أجلوهم عنها إلى رومة و ما وراءها و هو الخراب الثاني للمسجد و يسميه اليهود بالجلوة الكبرى فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبية منهم و بقوا بعد ذلك في ملكة الروم من بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرئيس عليهم المسمى بالكوهن ثم جاء المسيح صلوات الله و سلامة عليه بما جاءهم به من الدين و النسخ لبعض أحكام التوراة و ظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمة و الأبرص و إحياء الموتى و اجتمع عليه كثير من الناس و آمنوا به و أكثرهم الحواريون من أصحابه و كانوا أثني عشر و بعث منهم رسلاً إلى الآفاق داعين إلى ملته و ذلك أيام أوغسطس أول ملوك القياصرة و في مدة هيرودس ملك اليهود الذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره فحسده اليهود و كذبوه و كاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله و وقع ما تلاه القرآن من أمره و افترق الحواريون شيعاً و دخل أكثرهم بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية و كان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثم كتبوا الإنجيل الذي انزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم فكتب متى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية و نقله يوحنا بن زبدي منهم إلى اللسان اللاتيني و كتب لوقا منهم إنجيله باللاتيني إلى بعض أكابر الروم و كتب يوحنا بن زبدي منهم إنجيله برومة و كتب بطرس إنجيله باللاتيني و نسبه إلى مرقاص تلميذه و اختلفت هذه النسخ الأربع من الإنجيل مع أنها ليست كلها و حيا صرفاً بل مشوبة بكلام عيسى عليه السلام و بكلام الحواريين و كلها مواعظ و قصص و الأحكام فيها قليلة جداً و اجتمع الحواريون الرسل لذلك العهد برومة و وضعوا قوانين الملة النصرانية و صيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس و كتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها و العمل بها.
فمن شريعة اليهود القديمة التوراة و هي خمسة أسفار و كتاب يوشع و كتاب القضاة و كتاب راعوث و كتاب يهوذا و أسفار الملوك أربعة و سفر بنيامين و كتب المقابيين لا بن كريون ثلاثة و كتاب عزرا الإمام و كتابا أوشير و قصة هامان و كتاب أيوب الصديق و مزامير داود عليه السلام و كتب ابنه سليمان عليه السلام خمسة و نبؤات الأنبياء الكبار و الصغار ستة عشر و كتاب يشوع بن شارخ وزير سليمان. و من شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقاة من الحواريين نسخ الإنجيل الأربع و كتب القتاليقون سبع رسائل و ثامنها الإبريكسيس في قصص الرسل و كتاب بولس أربع عشرة رسالة و كتاب أقليمنطس و فيه الأحكام و كتاب أبو غالمسيس و فيه رؤيا يوحنا بن زبدي. و اختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة تارة و تعظيم أهلها ثم تركها أخرى و التسلط عليهم بالقتل و البغي إلى أن جاء قسطنطين و أخذ بها و استمروا عليها. و كان صاحب هذا الدين و المقيم لمراسيمه يسمونه البطرك و هو رئيس الملة عندهم و خليفة المسيح فيهم يبعث نوابه و خلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النصرانية و يسمونه الأسقف أي نائب البطرك و يسمون الإمام الذي يقيم الصلوات و يفتيهم في الدين بالقسيس و يسمون المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب.
و أكثر خلواتهم في الصوامع و كان بطرس الرسول رأس الحواريين و كبير التلاميذ برومة يقيهم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق و الأساقفة ثم قام بخلافته في كرسي رومة آريوس و كان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية و مصر و المغرب داعيا سبع سنيين فقام بعده حنانيا و تسمى بالبطرك و هو أول البطاركة فيها و جعل معه اثني عشر قساً على أنه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه و يختار من المؤمنين واحداً مكان ذلك الثاني عشر فكان أمر البطاركة إلى القسوس ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم و عقائده و اجتمعوا بنيقية أيام قسطنطين لتحرير الحق في الدين و اتفق ثلاثمائة و ثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين فكتبوه و سموه الإمام و صيروه أصلاً يرجعون إليه و كان فيما كتبوه أن البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة كما قرره حنانيا تلميذ مرقاس و أبطلوا ذلك الرأي و إنما يقدهم عن بلاء و اختبار من أئمة المؤمنين و رؤسائهم فبقي الأمر كذلك.
ثم اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الذين و كانت لهم مجتمعات في تقرير و لم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك و تصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة و كان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضاً تعظيماً له فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركية هرقل بإسكندرية فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الاسقف في التعظيم فدعوه البابا و معناه أبو الآباء و ظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تأريخه ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم و هو كرسي بطرس الرسول كما قدمناه فلم يزل سمة عليه حتى الآن ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك و فيما يعتقدونه في المسيح و صاروا طوائف و فرقاً و اسظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم و لا يلتفتون إلى غيرها و هم الملكية و اليعقوبية و النسطورية ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية و رومة للإفرنجة و ملكلهم قائم بتلك الناحية و بطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية و هو ساكن بين ظهرانيهم و الحبشة يدينون بدينهم و لبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك.
و اختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد و لا تسمي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم و ضبط هذه اللفظة بباءين موحدتين من أسفل و النطق بها مفخمة و الثانية مشددة و من مذاهب البابا عند الإفرنجة أنه يحضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم و اجتماعهم تحرجاً من افتراق الكلمة و يتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم و يسمونه الإنبرذور و حرفة الوسط بين الذال و الظاء المعجمتين و مباشرة يضع التاج على رأسه للتبرك فيسمى المتوج، و لعله معنى لفظة الإنبرذور و هذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين الذين هما البابا و الكوهن و الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء.
الفصل الرابع و الثلاثون في مراتب الملك و السلطان و ألقابها
إعلم أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً فلا بد له من الاستعانة بأبناء جنسه و إذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه و سائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه و من استرعاه الله من خلقه و عباده و هو محتاج إلى حماية الكافة من عدوهم بالمدافعة عنهم و إلى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم و كف عدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم و إلى حملهم على مصالحهم و ما تعمهم به البلوى في معاشهم و معاملاتهم من تفقد المعايش و المكاييل و الموازين حذراً من التطفيف و إلى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعاملون بها من الغش و إلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له و الرضى بمقاصده منهم و انفراده بالمجد دونهم فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب قال بعض الأشراف من الحكماء: لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون على من معاناة قلوب الرجال ثم إن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتم المشاكلة في الاستعانة قال تعالى واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري و هو إما أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجابه عن الناس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النظر في مهماتهم أو يدفع النظر في الملك كله و يعول على كفايته في ذلك و اضطلاعه فلذلك قد توجد في رجل واحد و قد تفترق في أشخاص و قد يتفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة كالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل و المخاطبات و قلم الصكوك و الإقطاعات و إلى قلم المحاسبات و هو صاحب الجباية و العطاء و ديوان الجيش و كالسيف يتفرع إلى صاحب الحرب و صاحب الشرطة و صاحب البريد و ولاية الثغور ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدين و الدنيا كما قدمناه فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها و موجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلق الحكم الشرعية بجميع أفعال العباد و الفقية ينظر في مرتبة الملك و السلطان و شروط تقليدها استبدادا على الخلافة و هو معنى السلطان أو تعويضاً منها و هو معنى الوزارة عندهم كما يأتي و في نظره في الأحكام و الأقوال و سائر السياسات مطلقاً أو مقيداً و في موجبات العزل إن عرضت و غير ذلك مني معاني الملك و السلطان و كذا في سائر الوظائف التي تحت الملك و السلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك كما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك و السلطان إلا أن كلامنا في وظائف الملك و السلطان و رتبته إنما هو بمقتضى طبيعة العمران و وجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي و غيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك و إنما تكلمنا في الوظائف الخلافية و أفردناها لنمير بينها و بين الوظائف السلطانية فقط لا لتحقيق أحكامها الشرعية فليس من غرض كتابنا و إنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني و الله الموفق.
الوزارة: و هي أهم الخطط السلطانية و الرتب الملوكية لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة و هي المعاونة أو من الوزر و هو الثقل كأنه يحمل مع مفاعله أوزاره و أثقاله و هو راجع إلى المعاونة المطلقة و قد كنا قدمنا في أول الفصل أن أحوال السلطان و تصرفاته لا تعدو أربعةً لأنها إما أن تكون في أمور حماية الكافة و أسبابها من النظر في الجد و السلاح و الحروب و سائر أمور الحماية و المطالبة و صاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدول القديمة بالمشرق و لهذا العهد بالمغرب و إما أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال و إنفاقه و ضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة و صاحب هذا هو صاحب المال و الجباية و هو المسمى بالوزير لهذا العهد بالمشرق و إما أن يكون في مدافعة الناس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه و هذا راجع لصاحب الباب الذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. و كل خطة أو رتبة من رتب الملك و السلطان فإليها ترجع. إلا أن الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامة فيما تحت يد السلطان من ذلك الصنف إذ هو يقتضي مباشر السلطان دائماً و مشاركته في كل صنف من أحوال ملكه و أما ما كان خاصاً ببعض الناس أو ببعض الجهات فيكون دون الرتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصة أو النظر في أمر خاص كحسبة الطعام أو النظر في السكة فإن هذه كلها نظر في أحوال خاصة فيكون صاحبها تبعاً لأهل النظر العام و تكون رتبته مرؤوسة لأولئك. و ما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام و صار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلما بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعي من المعاونة بالرأي و المفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بد منه فكان صلى الله عليه و سلم يشاور أصحابه و يفاوضهم في مهماته العامة و الخاصة و يخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى حتى كان العرب الذين عرفوا الدول و أحوالها في كسرى و قيصر و النجاشي يسمون أبا بكر وزيره و لم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام و كذا عمر مع أبي بكر و علي في و عثمان مع عمر و أما حال الجباية و الإنفاق و الحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأن القوم كانوا عرباً أميين لا يحسنون الكتاب و الحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب أو أفراداً من موالي العجم ممن يجيده و كان قليلاً فيهم و أما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها و كذا حال المخاطبات و تنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصة للامية التي كانت فيهم و الأمانة العامة في كتمان القول و تأديته و لم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الملكية في شيء و أيضاً فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات و لم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عن له من يحسنه و أما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظوراً بالشريعة فلم يفعلوه فلما انقلبت الخلافة إلى الملك و جاءت رسوم السلطان و ألقابه كان أول شيء بديء به في الدولة شأن الباب و سده دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج و غيرهم كما وقع بعمر و علي و معاوية و عمر بن العاص و غيرهم مع
ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم و شغلهم بهم عن المهمات فاتخذوا من يقوهم لهم بذلك و سموه الحاجب و قد جاء أن عبد الملك لما ولي حاجبه قال له قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة المؤذن للصلاة فإنه داعي الله و صاحب البريد فأمر ما جاء به و صاحب الطعام لئلا يفسد ثم استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور و المعين في أمور القبائل و العصائب و استئلافهم و أطلق عليه اسم الوزير و بقي أمر الحسبان في الموالي و الذميين و أتخذ للسجلات كاتب مخصوص حوطةً على أسرار السلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه و لم يكن بمثابة الوزير لأنه إنما احتيج له من حيث الخط و الكتاب لا من حيث اللسان الذي هو الكلام إذ اللسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أمية فكان النظر للوزير عاما في أحوال التدبير و المفاوضات و سائر أمور الحمايات و المطالبات و ما يتبعها من النظر في ديوان الجند و فرض العطاء بالأهلية و غير ذلك فلما جاءت دولة بني العباس و استفحل الملك و عظمت مراتبه و ارتفعت و عظم شأن الوزير و صارت إليه النيابة في إنفاذ الحل و العقد تعينت مرتبته في الدولة و عنت لها الوجوه و خضعت لها الرقاب و جعل لها النظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النظر في جمعه و تفريقه و أضيف إليه النظر فيه ثم جعل له النظر في القلم و الترسيل لصون أسرار السلطان و لحفظ البلاغة لما كان اللسان قد فسد عند الجمهور و جعل الخاتم لسجلات السلطان ليحفظها من الذياع و الشياع و دفع إليه فصار اسم الوزير جامعاً لخطتي السيف و القلم و سائر معالي الوزارة و المعاونة حتى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسلطان أيام الرشيد إشارة إلى عموم نظره و قيامه بالدولة و لم يخرج عنه من الرتب السلطانية كلها إلا الحجابة التي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثم جاء في الدولة العباسية شأن الاستبداد على السلطان و تعاور فيها استبداد الوزارة مرة و السلطان أخرى و صار الوزير إذا استبد محتاجاً إلى استنابة الخليفة إياه لذلك لتصح الأحكام الشرعية و تجيء على حالها كما تقدمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ و هي حال ما يكون السلطان قائماً على نفسه و إلى وزارة تفويض و هي حال ما يكون الوزير مستبداً عليه ثم استمر الاستبداد و صار الأمر لملوك العجم و تعطل رسم الخلافة و لم يكن لأولئك المتغلبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة و استنكفوا من مشاركة الوزراء في اللقب لأنهم خول لهم فتسموا بالإمارة و السلطان و كأن المستبد على الدولة يسمى أمير الأمراء أو بالسلطاني إلى ما يحليه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم و تركوا اسم الوزارة إلى من يتولاها للخليفة في خاصته و لم يزل هذا الشأن عندهم إلى آخر دولتهم و فسد اللسان خلال ذلك كله و صارت صناعة ينتحلها بعض الناس فامتهنت و ترفع الوزراء عنها لذلك و لأنهم عجم و ليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخير لها من سائر الطبقات و اختصت به و صارت خادمة للوزير و اختص اسم الأمير بصاحب الحروب و الجند و ما يرجع إليها و يده مع ذلك عالية على أهل الرتب و أمره نافذ في الكل إما نيابة أو استبداداً و استمر الأمر على هذا ثم جاءت دولة الترك آخراً بمصر فرأوا أن الوزارة قد ابتذلت بترفع أولئك عنها و دفعها لمن يقوهم بها للخليفة المحجور و نظره مع ذلك فتعقب بنظر الأمير فصارت مرؤوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرتبة المالية في الدولة عن اسم الوزارة و صار صاحب الأحكام و النظر في الجند يسمى عندهم بالنائب لهذا العهد و بقي اسم الحاجب في مدلوله و اختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية. و أما دولة بني أمية بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة ثم قسموا خطته أصنافاً و أفردواً لكل صنف وزيراً فجعلوا لحسبان المال وزيراً و للترسيل وزيراً و للنظر في حوائج المتظلمين وزيراً و للنظر في أحوال أهل الثغور وزيراً و جعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم و ينفذون أمر السلطان هناك كل فيما جعل له و أفرد للتردد بينهم و بين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم و خصوه باسم الحاجب و لم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطة الحاجب و مرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب كما نذكره ثم جاءت دولة الشيعة بإفريقية و القيروان و كان للقائمين بها رسوخ في البداوة فاغفلوا أمر هذه الخطط أولاً و تنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، و لما جاءت دولة الموحدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أولا للبداوة ثم صارت إلى انتحال الأسماء و الألقاب و كان اسم الوزير في مدلوله ثم اتبعوا دولة الأمويين و قلدوها في مذاهب السلطان و اختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه و يقف بالوفود و الداخلين على السلطان عند الحدود في تحيتهم و خطابهم و الآداب التي تلزم في الكون بين يديه و رفعوا خطة الحجابة عنه ما شاءوا و لم يزل الشأن ذلك إلى هذا العهد و أما في دولة الترك بالمشرق فيسمون هذا الذي يقف بالناس على حدود الآداب في اللقاء و التحية في مجالس السلطان و التقدم بالوفود بين يدي الدويدار و يضيفون إليه استتباع كاتب السر و أصحاب البريد المتصرفين في حاجات السلطان بالقاصية و بالحاضرة و حالهم على ذلك لهذا العهد و الله مولي الأمور لمن يشاء.
الحجابة: قد قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصاً في الدولة الأموية و العباسية بمن يحجب السلطان عن العامة و يغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته و كانت هذه منزلة يوماً عن الخطط مرؤوسة لها إذ الوزير متصرف فيها بما يراه و هكذا كانت سائر أيام بنى العباس لم إلى هذا المهد فهي بمصر مرؤوسة لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب. و أما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان عن الخاصة و العامة و يكون واسطة بينه و بين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد و غير من حجابهم ثم لما جاء الاستبداد على الدولة اختص المستبد باسم الحجابة لشرفها فكان المنصور بن أبي عامر و أبناوه كذلك و لما بدوا في مظاهر الملك و أطواره جاء من بعدهم من ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها و كانوا يعدونه شرفاً لهم و كان أعظمهم ملكاً بعد انتحال ألقاب الملك و أسمائه لا بد له من ذكر الحاجب و ذي الوزارتين يعنون به السيف و القلم و يدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة و الخاصة و بذي الوزارتين عن جمعه لخطتي السيف و القلم. ثم لم يكن في دول المغرب و أفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة التي كانت فيهم و ربما يوجد في دولة العبيديين بمصر عند استعظامها و حضارتها إلا أنه قليل. و لما جاءت دولة الموحدين لم تستمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب و تمييز الخطط و تعيينها بالأسماء إلا آخراً فلم يكن عندهم من الرتب إلا الوزير فكانوا أولاً يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمر كابن عطية و عبد السلام الكومي و كان له مع ذلك النظر في الحساب و الأشغال المالية ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب الدولة من الموحدين كابن جامع و غيره و لم يكن اسم الحاجب معروفاً في دولتهم يومئذ. و أما بنو أبي حفص بأفريقية فكانت الرئاسة في دولتهم أولاً و التقدم لوزير و الرأي و المشورة و كان يخص باسم شيخ الموحدين و كان له النظر في الولايات و العزل وقود العساكر و الحروب و اختص الحسبان و الديوان برتبة أخرى و يسمى متوليها بصاحب الأشغال ينظر فيها النظر المطلق في الدخل و الخرج و يحاسب و يستخلص الأموال و يعاقب على التفريط و كان من شرطه أن يكون من الموحدين و اختص عندهم القلم أيضاً بمن يجيد الترسيل و يؤتمن على الأسرار لأن الكتابة لم تكن من منتحل القوم و لا الترسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النسب و احتاج السلطان لاتساع ملكه و كثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاص بداره في أحواله يجريها على قدرها و ترتيبها من رزق و عطاء و كسوة و نفقة في المطابخ و الإصطبلات و غيرهما و حصر الذخيرة و تنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصوه باسم الحاجب و ربما أضافوا إليه كتابة فعلامة على السجلات إذا اتفق أنه يحسن صناعة الكتابة و ربما جعلوه لغيره و استمر الأمر على ذلك و حجب السلطان نفسه عن الناس فصار هذا الحاجب واسطة بين الناس و بين أهل الرتب كلهم ثم جمع له آخر الدولة السيف و الحرب ثم الرأي و المشورة فصارت الخطة أرفع الرتب و أوعبها للخطط ثم جاء الاستبداد و الحجر مدة من بعد السلطان الثاني عشر منهم ثم استبد بعد ذلك حفيده السلطان أبو العباس على نفسه و أذهب آثار الحجر و الاستبداد بإذهاب خطة الحجابة التي كانت سلماً إليه و باشر أموره كلها بنفسه من غير استعانة بأحد و الأمر على ذلك لهذا العهد.
و أما دولة زناتة بالمغرب و أعظمها دولة بني مرين فلا أثر لاسم الحاجب عندهم و أما رئاسة الحرب و العساكر في للوزير و رتبة القلم في الحسبان و الرسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها و إن اختصت ببعض البيوت المصطنعين في دولتهم و قد تجمع عندهم و قد تفرق و أما باب السلطان و حجبه عن المائة فهي رتبة عندهم فيسمى صاحبها عندهم بالمزوار و معناه المقدم على الجنادرة المتصرفين بباب السلطان في تنفيذ أوامر و تصريف عقوباته و إنزال سطواته و حفظ المعتقلين في سجونه و العريف عليهم في ذلك فالباب له و أخذ الناس بالوقوف عند الحدود في دار العامة راجع إليه فكأنها وزارة صغرى. و أما دولة بني عبد الواد فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب و لا تمييز الخطط لبداوة دولتهم و قصورها و إنما يخصون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفذ الخاص بالسلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص و قد يجمعون له الحسبان و السجل كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدولة بما كانوا في تبعتها و قائمين بدعوتها منذ أول أمرهم.
و أما أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان و تنفيذ حال السلطان و سائر الأمور المالية يسمونه بالوكيل و أما الوزير فكالوزير إلا أنه يجمع له الترسيل و السلطان عندهم يضع خطه على السجلات كلها فليس هناك خطة العلامة كما لغيرهم من الدول. و أما دولة الترك بمصر فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشوكة و هم الترك ينفذ الأحكام بين الناس في المدينة و هم متعددون و هذه الوظيفة عندهم تحت وظيفة النيابة التي لها الحكم في أهل الدولة و في العامة على الإطلاق و للنائب التولية و العزل في بعض الوظائف على الأحيان و يقطع القليل من الأرزاق و يبتها و تنفذ أوامره كما تنفذ المراسم السلطانية و كان له النيابة المطلقة عن السلطان و للحجاب الحكم فقط في طبقات العامة و الجند عند الترافع إليهم و إجبار من أبى الانقياد للحكم و طورهم تحت طور النيابة و الوزير في دولة الترك هو صاحب جباية الأموال في الدولة على اختلاف أصنافها من خراج أو مكس أو جزية ثم في تصريفها في الإنفاقات السلطانية أو الجرايات المقدرة و له مع ذلك التولية و العزل في سائر العمال المباشرين لهذه الجباية و التنفيذ على اختلاف مراتبهم و تباين أصنافهم و من عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان و الجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة و قد يوليها السلطان بعض الأحيان لأهل الشوكة من رجالات الترك أو أبنائهم على حسب الداعية لذلك و الله مدبر الأمور و مصرفها بحكمته لا إله إلا هو رب الأولين و الآخرين.
ديوان الأعمال و الجبايات
إعلم أن هذه الوظيفة من الوظائف الضرورية للملك و هي القياهم على أعمال الجبايات و حفظ حقوق الدولة في الدخل و الخرج و إحصاء العساكر بأسمائهم و تقدير أرزاقهم و صرف أعطياتهم في إباناتها و الرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومه تلك الأعمال و قهارمة الدولة و هي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل و الخرج مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوهم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال و يسمى ذلك الكتاب بالديوان و كذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها. و يقال أن أصل هذه التسمية أن كسرى نظر يوماً إلى كتاب ديوانه و هم يحسبون على أنفسهم كأنهم يحادثون فقال ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمي موضعهم بذلك و حذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفاً فقيل ديوان ثم نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمن للقوانين و الحسبانات و قيل أنه اسم للشياطين بالفارسية سمي الكتاب بذلك لسرعة نفوذهم في الأمور و وقوفهم على الجلي معها و الخفي و جمعهم لما شد و تفرق ثم نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال و على هذا فيتناول اسم الديوان كتاب الرسائل و مكان جلوسه بباب السلطان على ما يأتي بعد و قد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال و قد يفرد كل صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدولي النظر في العساكر و إقطاعاتهم و حسبان أعطيه لهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدولة و ما قرره أولوها. و اعلم أن هذه الوظيفة إنما تحدث في الدول عند تمكن الغلب و الاستيلاء و النظر في أعطاف الملك و فنون التمهيد. و أول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية عمر رضي الله عنه يقاد لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه و تعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال و ضبط العطاء و الحقوق فأشار خالد بن الوليد بالديوان و قال: رأيت ملوك الشام يدونون فقبل منه عمر و قيل بل أشار عليه به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له و من يعلهم بغيبة من يغيب منهم فإن من تخلف أخل بمكانه و إنما يضبط ذلك الكتاب فأثبت لهم ديواناً و سأل عمر عن اسم الديوان. فعبر له و لما اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب و مخرمة بن نوفل و خبير بن مطعم و كانوا من كتاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما بعدها الأقرب فالأقرب هكذا كان ابتداء ديوان الجيش و روى الزهري بن سعيد بن المسيب أن ذلك كان في المحرم سنة عشرين و أما ديوان الخراج و الجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسية و ديوان الشام بالرومية و كتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين و لما جاء عبد الملك بن مروان و استحال الأمر ملكاً و انتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة و من سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة و ظهر في العرب و مواليه م مهرة في الكتاب و الحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد والي الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه و وقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم. و أما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن و كان يكتب بالعربية و الفارسية و لقن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجاج قبله و لما قتل زادان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحاً هذا مكانه و أمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل و رغم لذلك كتاب الفرس و كان عبد الحميد بن يحي يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب ثم جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العباس مضافة إلى من كان له النظر فيه كما كان شأن بني برمك و بنى سهل بن نوبخت و غيرهم من وزراء الدولة. و أما ما يتعلق بهذه الوظيفة من الأحكام الشرعية مما يختص بالجيش أو بيت المال في الدخل و الخرج و تمييز النواحي بالصلح و الغنوة و في تقليد هذه الوظيفة لمن يكون و شروط الناظر فيها و الكاتب و قوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السلطانية و هي مسطورة هنالك و ليست من عرض كتابنا و إنما نتكلم فيها من حيث طبيعة الملك الذي نحن بصدد الكلام فيه و هذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأن الملك لا بد له من الجند و المال و المخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السيف و أمر القلم و أمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رئاسة الملك و كذلك كال الأمر في دولة بني أمية بالأندلس و الطوائف بعدهم و أما في دولة الموحدين فكان صاحبها إنما يكون من الموحدين يستقل بالنظر في استخراج الأموال و جمعها و ضبطها و تعقب نظر الولاة و العمال فيها ثم تنفيذها على قدرها و في مواقيتها و كان يعرف بصاحب الأشغال و كان ربما يليها في الجهات غير الموحدين ممن يحسنها. و لما استبد بنو أبي حفص بأفريقية و كان شأن الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات و فيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك و جعلوا لهم النظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس و دالوا فيها بينهم و بين الموحدين ثم استقل بها أهل الحسبان و الكتاب و خرجت عن الموحدين ثم لما استغلظ أمر الحاجب و نفذ أمره في كل شأن من شؤون الدولة تعطل هذا الرسل و صار صاحبه مرؤوساً للحاجب و أصبح من جملة الجباة و ذهبت تلك الرئاسة التي كانت له في الدولة. و أما دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان العطاء و الخراج مجموع لواحد و صاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها و يرجع إلى ديوانه و نظره معقب بنظر السلطان أو الوزير و خطه معتبر في صحت الحسبان في الخارج و العطاء هذه أصول الرتب و الخطط السلطانية و هي الرتب العالية التي هي عامة النظر و مباشر للسلطان. و أما هذه الرتبة في دولة الترك فمتنوعة و صاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش و صاحب المال مخصوص باسم الوزير و هو الناظر في ديوان الجباية العامة للدولة و هو أعلى رتب الناظرين في الأموال لأن النظر في الأموال عندهم يتنوع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم و عظمة سلطانهم و أتساع الأموال و الجبايات عن أن يستقل بضبطها الواحد من الرجال و لو بلغ في الكفاية مبالغة فتعين للنظر العام منها هذا المخصوص باسم الوزير و هو مع ذلك رديف لمولى من موالي السلطان و أهل عصبيته و أرباب السيوف في الدولة يرجع نظر الوزير إلى نظره و يجتهد جهده في متابعته و يسمى عندهم أستاذ الدولة و هو أحد الأمراء الأكابر في الدولة من الجند و أرباب السيوف و يتبع هذه الخطة خطط عندهم أخرى كلما راجعة إلى الأموال و الحسبان مقصورة النظر إلى أمور خاصة مثل ناظر الخاص و هو المباشر لأموال السلطان الخاصة به من إقطاعاته أو سهمانه من أموال الخراج و بلاد الجباية مما ليس من أموال المسلمين العامة و هو تحت يد الأمير أستاذ الدار و إن كان الوزير من الجند فلا يكون لاستاذ الدار نظر عليه و نظر الخاص تحت يد الخازن لأموال السلطان من مماليكه المسمى خازن الدار لاختصاص وظيفتهما بمال السلطان الخاص. هذا بيان هذه الخطة بدولة الترك بالمشرق بعد ما قدمناه من أمرها بالمغرب و الله مصرف الأمور لا رب غيره.
ديوان الرسائل و الكتابة
هذه الوظيفة غير ضرورية في الملك لاستغناء كثير من الدول عنها رأساً كما في الدول العريقة في البداوة التي لم يأخذها تهذيب الحضارة و لا استحكام الصنائع و إنما أكد الحاجة إليها في الدولة الإسلامية شأن اللسان العربي و البلاغة في العبارة عن المقاصد فصار الكتاب يؤدي كنه الحاجة بم بلغ من العبارة اللسانية في الأكثر و كان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه و من عظماء قبيله كما كان للخلفاء و أمراء الصحابة بالشام و العراق لعظم أمانتهم و خلوص أسرارهم فلما فسد اللسان و مهار صناعة اختص بمن يحسنه و كانت عند بني العباس رفيعةً و كان الكاتب يصدر السجلات مطلقة و يكتب في آخرها اسمه و يختم عليها بخاتم السلطان و هو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء و يسمى طين الختم و يطبع به على طرفي السجل عند طيه و إلصاقه ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان و يضع الكاتب فيها علامته أولاً أو آخراً على حسب الاختيار في محلها و في لفظها ثم قد تنزل هذه الخطة بارتفاع المكان عند السلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة و الحكم لعلامة ذلك الرئيس كما وقع آخر الدولة الحفصية لما ارتفع شأن الحجابة و صار أمرها إلى التفويض ثم الاستبداد فصار حكم العلامة التي للكاتب ملغى و صورتها ثابتة إتباعاً لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخط يضعه و يتخير له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له و يضع العلامة المعتادة و قد يختص السلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمر قائماً على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته و من خطط الكتابة التوقيع و هو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه و فصله و يوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها و الفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ و أبلغه فإما أن تصدر كذلك و إما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة و يحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه و قد كان جعفر بن يحيى يوقع في القصص بين يدي الرشيد و يرمي بالقصة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة و فنونها حتى قيل أنها كانت تباع كل قصة منها بدينار و هكذا كان شأن الدول، و اعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد من أن يتخير أرفع طبقات الناس و أهل المرؤة و الحشمة منهم و زيادة العلم و عارضة البلاغة فأنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك و مقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب و التخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل و تطبيق مقاصد الكلام من البلاغة و أسرارها و قد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته و سائر رتبه فيقلد المال و السيف و الكتابة منهم فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم و أما المال و الكتابة فيضطر إلى ذلك البلاغة في هذه و الحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة و يقلدونه إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده و يكون نظره منصرفاً عن نظره كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فإن الكتابة عندهم و إن كانت لصاحب الإنشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار و تعويل السلطان و وثوقه به و استنامته في غالب أحواله إليه و تعويله على الآخر في أحوال البلاغة و تطبيق المقاصد و كتمان الأسرار و غير ذلك من توابعها. و أما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره و انتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة و أحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب و هي: أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة و حاطكم و وفقكم و أرشدكم فإن الله عز و جل جعل الناس بعد الأنبياء و المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين و من بعد الملوك المكرمين أصنافاً و إن كانوا في الحقيقة سواء و صرفهم في صنوف الصناعات و ضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم و الجواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب و المرؤات و العلم و الرزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها و تستقيم أمورها و بنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم و تعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم و لا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون و أبصارهم التي بها يبصرون و ألسنتهم التي بها ينطقون و أيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فصل صناعتكم و لا نزع عنكم ما أضفاه من النغمة عليكم و ليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة و خصال الفضل المذكورة المعدودة منهم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج في نفسه و يحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف و العدل و الإنصاف كتوماً للأسرار و فياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها و الطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه و إن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله و حسن أدبه و فضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده و عاتبة ما يصدر عنه قبل صدور فيعد لكل أمر عدته و عتاده و يهيء لكل وجه هيئته و عادته فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب و تفقهوا في الدين و ابدأوا بعلم كتاب الله عز و جل و الفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم و ارووا الأشعار و اعرفوا غريبها و معانيها و أيام العرب و العجم و أحاديثها و سيرها فإن ذلك معين لهم على ما تسمو إليه هممكم و لا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج و ارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها و دنيها و سفساف الأمور و محاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب و نزهوا صناعتكم عن الدناءة و اربأوا بأنفسكم عن السعاية و النميمة و ما فيه أهل الجهالات و إياكم و الكبر و السخف و العظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة و تحابوا في الله عز و جل في صناعتكم و تواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل و العدل و النبل من سلفكم و إن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه و آسوه حتى يرجع إليه حاله و يثوب إليه أمره و إن أقعد أحداً منهم الكنز عن مكسبه و لقاء إخوانه فزوروه و عظموه و شاوروه و استظهروا بفضل تجربته و قديم معرفته و ليكن الرجل منكم على من اصطنعه و استظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده و أخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصفها إلا إلى صاحبه و إن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه و ليحذر السقطة و الزلة و الملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء و هو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبة من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه و شكره و احتماله و خيره و نصيحته و كتمان سر و تدبير أمر ما هو جزاء لحقه و يصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه و الاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك و فقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء و الشدة و الحرمان و المؤاساة و الإحسان و السراء و الضراء فنعمت السيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة و إذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله و عياله أمر فليراقب الله عز و جل و ليؤثر طاعته و ليكن على الضعيف رفيقاً و للمظلوم منصفاً ( فإن الخلق عيال الله و أحبهم إليه أرفقهم بعياله ) ثم ليكن بالعدل حاكماً و للأشراف مكرماً و للفيء موفراً و للبلاد عامراً و للرعية متألفاً و عن أذاهم متخلفاً و ليكن في مجلسه متواضعاً حليماً و في سجلات خراجه و استقضاء حقوقه رفيقاً و إذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها و قبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن و احتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة و أجمل و سبيلة و قد علمتم أن سائس .....يتّبع......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق