الخميس، 1 ديسمبر 2011

مقدّمة إبن خلدون : الجزء الخامس


الجزء الخامس
السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم و كثير من هذا و أمثاله و كذلك عرس المأمون بن ذي النون بطليطلة نقلة ابن سام في كتاب الذخيرة و ابن حيان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملةً لفقدان أسبابه و القائمين على صنائعه في غضاضتهم و سذاجتهم يذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس و قال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى و قد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة أربعاً على كل واحد و تحمله أربع و صائف و يجلس عليه أربعة من الناس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها و وصفائها فقال الحجاج يا غلام انحر الجزر و أطعم الناس و علم أنه لا يستقل بهذه الأبهة و كذلك كانت. و من هذا الباب أعطية بنى أمية و جوائزهم فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم ثم كانت الجوائز في دولة بنى العباس و العبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال و تخوت الثياب و إعداد الخيل بمراكبها و هكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بأفريقية و كذا بنى طفج بمصر و شأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس و الموحدين كذلك و شأن زناتة مع الموحدين و هلم جراً تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية و بني العباس و انتقلت حضارة بنى أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين و زناتة لهذا العهد و انتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك ثم إلى السلجوقية ثم إلى الترك المماليك بمصر و التتر بالعراقين و على قدر عظم لدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف و الترف من توا بع الثروة و النعمة و الثروة و النعمة من توابع الملك و مقدار ما يستولي عليه أهل الدولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله فاعتبره و تفهمه و تأمله تجده صحيحاً في العمران و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.

الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
و السبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك و الترف كثر التناسل و الولد والعمومية فكثرت العصابة و استكثروا أيضاً من الموالى و الصنائع و ربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم و الرفه فازدادوا به عدداً إلى عددهم و قوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد فإذا ذهب الجيل الأول و الثاني و أخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع و الموالى بأنفسهم في تأسيس الدولة و تمهيد ملكها لأنهم ليس لهم من الأمر شيء إنما كانوا عيالاً على أهلها و معونةً لها فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب و يتلاشى و لا تبقى الدولة على حالها من القوة. و اعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام.كان عدد العرب كما قلنا لعهد النبؤة و الخلاقة مائة و خمسين ألفا و ما يقاربها من مضر و قحطان و لما بلغ الترف مبالغة قي الدولة و توفر نموهم بتوفر النعمة و استكثر الخلفاء من الموالى و الصنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه يقال إن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف و لا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية و القاصية شرقاً و غرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك و الموالى والمصطنعين و قال المسعودي أحصى بنو العباس ابن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران و إناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مائتي سنة و اعلم أن سببه الرفه و النعيم الذي حصل للدولة و ربى فيه أجيالهم و إلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا و لا قريبا منة و الله الخلاق العليم.


الفصل السابع عشر في أطوار الدولة و اختلاف أحوالها و خلق أهلها باختلاف الأطوار
إعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة و حالات متجددة و يكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور لا يكون مثله في الطور الآخر لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه و حالات الدولة و أطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. الطور الأول طور الظفر بالبغية و غلب المدافع و الممانع و الاستيلاء على الملك و انتزاعه من أيدي الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد و جباية المال و المدافعة عن الحوزة و الحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطور الثاني طور الاستبداد على قومه و الانفراد دونهم بالملك و كبحهم عن التطاول للمساهمة و المشاركة و يكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال و اتخاذ الموالى و الصنائع و الاستكثار من ذلك لجدع الموت أهل عصبيته و عشيرته المقاسمين له في نسبة الضاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر و يصدهم عن موارده و يردهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه و يفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعانى من مدافعتهم و مغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم و هذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد فيركب صعباً من الأمر. الطور الثالث طور الفراغ و الدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال و تخليد الآثار و بعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية و ضبط الدخل و الخرج و إحصاء النفقات و القصد فيها و تشييد المباني الحافلة و المصانع العظيمة و الأمصار المتسعة و الهياكل المرتفعة و إجازة الوفود من أشراف الأمم و وجوه القبائل و بث المعروف في أهله هذا مع التوسعة على صنائعه و حاشيته في أحوالهم بالمال و الجاه واعتراض جنوده و إدرار أرزاقهم و إنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم و شكثهم و شاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة و يرهب الدول المحاربة و هذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم بانون لعزهم موضحون الطرق لمن بعدهم. طور القنوع و المسالمة و يكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه سلماً لأنظاره من الملوك و أقتاله مقلداً للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل و يقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء و يرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره و أنهم أبصر بما بنوا من مجده. الطور الخامس طور الإسراف و التبذير و يكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات و الملاذ و الكرم على بطانته و في مجالسه و اصطناع أخدان السوء و خضراء الدمن و تقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها و لا يعرفون ما يأتون منها يذرون منها مستفسداً لكبار الأولياء من قومه و صنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه و يتخاذلوا عن نصرته مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته و حجب عنهم وجه مباشرته و تفقده فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون و هادماً لما كانوا يبنون و في هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم و يستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه و لا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها و الله خير الوارثين.

الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها
و السبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً و على قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدولة و هياكلها العظيمة فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة و اجتماع الأيدي على العمل بالتعاون فيه فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك و الرعايا كان الفعلة كثيرين جداً و حشروا من آفاق الدولة و أقطارها فتم العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد و ثمود و ما قصة القرآن عنهما.
و انظر بالمشاهدة إيوان كسرى و ما أقتدر فيه الفرس حتى أنه عزم الرشيد على هدمه و تخريبه فتكاءد عنه و شرع فيه ثم أدركه العجز و قصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم و البناء في السهولة. تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين و انظر إلى بلاط الوليد بدمشق و جامع بنى أمية بقرطبة و القنطرة التي على واديها كذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها آثار شرشال بالمغرب و الأهرام بمصر و كثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلف الدول في القوة و الضعف و اعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام و اجتماع الفعلة و كثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل و المصانع و لا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها و أقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل و الآثار و لقد ولع القصاص بذلك و تغالوا فيه و سطروا عن عاد و ثمود و العمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر و يشويه إلى الشمس و يزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة و أنها شديدة فيما قرب منها و لا يعلمون أن الحر هو الضوء و أن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك و إذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب و أن الشمس في نفسها لا حارة و لا باردة و أنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له.
و كذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام و أطوال بني إسرائيل و جسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنها وإن خربت و جددت لم تزل المحافظة على أشكالها و مقادير أبوابها و كيف يكون التفاوت بين عوج و بين أهل عصره بهذا المقدار و إنما مثارغلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم و لم يفهموا حال الدول في الاجتماع و التعاون و ما يحصل بذلك و بالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوة الأجسام و شدتها بعظم هياكلها و ليس الأمر كذلك. و قد زعم المسعودي و نقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم و هو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة و نهاية القوة و الكمال و كانت الأعمار أطول و الأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة فإن طروء الموت أنما هو بانحلال القوى الطبيعية فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال و انقراض العالم و هذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه و ليس له علة طبيعية و لا سبب برهاني و نحن نشاهد مساكن الأولين و أبوابهم و طرقهم فيما أحدثوه من البنيان و الهياكل و الديار و المساكن كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر بيوتاً صغاراً و أبوابها ضيقة و قد أشار صلى الله عليه و سلم إلى أنها ديارهم و نهى عن استعمال مياههم و طرح ما عجن به و أهرق و قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين يصيبكم ما أصابهم.
و كذلك أرض عاد و مصر و الشام و سائر بقاع الأرض شرقاً و غرباً و الحق ما قررناه و من آثار الدول أيضاً حالها في الأعراس و الولائم كما ذكرناه في وليمة بوران و صنيع الحجاج و ابن ذي النون و قد مر ذلك كله.
و من آثارها أيضاً عطايا الدول و أنها تكون على نسبتها و يظهر ذلك فيها و لو أشرفت على الهرم فإن الهمم التي لأهل الدولة تكون على نسبة قوة ملكهم و غلبهم للناس و الهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة و اعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذهب و الفضة و الأعبد و الوصائف عشراً عشراً و من كرش العنبر واحدة و أضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب و إنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس و إنما حمله على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض و الغلب على الأمم في العراقين و الهند و المغرب و كان الصنهاجيون بأفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنما يعطونهم المال أحمالاً و الكساء تخوتاً مملوءةً و الحملان جنائب عديدة.
و في تاريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة و كذلك كان عطاء البرامكة و جوائزهم و نفقاتهم و كانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية و النعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم و أخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة و هي كلها على نسبة الدول جارية هذا جوهر الصقلبي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال و لا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا. و كذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة غلات السواد سبع و عشرون ألف ألف درهم مرتين و ثمانمائة ألف درهم و من الحلل النجرانية مائتا حلة و من طين الختم مائتان و أربعون رطلاً كنكر أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و ستمائة ألف درهم كورد جلة عشرون ألف ألف درهم و ثمانية دراهم حلوان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و ثمانمائة ألف درهم الأهواز خمسة و عشرون ألف درهم مرة و من السكر ثلاثون ألف رطل فارس سبعة و عشرون ألف ألف درهم و من ماء الورد ثلاثون ألف قارورة و من الزيت الأسود عشرون ألف رطل كرمان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و مائتا ألف درهم و من المتاع اليماني خمسمائة ثوب و من التمر عشرون ألف رطل مكران أربعمائة ألف درهم مرة السند و ما يليه أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و خمسمائة ألف درهم و من العود الهندي مائة و خمسون رطلاً سجستان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و من الثياب المعينة ثلثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلاً خراسان ثمانية و عشرون ألف ألف درهم مرتين و من نقر الفضة ألفا نقرة و من البراذين أربعة آلاف و من الرقيق ألف رأس. و من المتاع عشرون ألف ثوب و من الإهليلج ثلاثون ألف رطل جرجان اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين و من الإبريسم ألف شقة. قومس ألف ألف مرتين و خمسمائة من نقر الفضة طبرستان و الروبان و نهاوند ستة آلاف ألف مرتين و ثلائمائة ألف و من الفرش الطبري ستمائة قطعة و من الأكسية مائتان و من الثياب خمسمائة ثوب و من المناديل ثلاثمائة و من الجامات ثلاثمائة الري اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين و من العسل عشرون ألف رطل همذان أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و ثلاثمائة ألف و من رب الرمان ألف رطل و من العسل اثنا عشر ألف رطل ما بين البصرة و الكوفة عشرة آلاف ألف درهم مرتين و سبعمائة ألف درهم ماسبذان والدينار أربعة آلاف ألف درهم مرتين شهر زور ستة آلاف ألف درهم مرتين و سبعمائة ألف درهم الموصل و ما يليها أربعة و عشرون ألف ألف درهم مرتين و من العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل أذربيجان أربعة آلاف ألف درهم مرتين الجزيرة و ما يليها من أعمال الفرات أربعة و ثلاثون ألف ألف درهم مرتين و من الرقيق ألف رأس و من العسل اثنا عشر ألف زق و من البزاة عشرة و من الأكسية عشرون أرمينية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين و من البسط المحفور عشرون و من الزقم خمسمائة و ثلاثون رطلاً و من المسايج السور ما هي عشرة آلاف رطل و من الصونج عشرة آلاف رطل و من البغال مائتان و من المهرة ثلاثون قنسرين أربعمائة ألف دينار و من الزيت ألف حمل دمشق أربعمائة ألف دينار و عشرون ألف دينار و الأردن سبعة و تسعون ألف دينار فلسطين ثلاثمائة ألف دينار و عشرة آلاف دينار و من الزيت ثلاثمائة ألف رطل مصر ألف ألف دينار و تسعمائة ألف دينار و عشرون ألف دينار. برقة ألف ألف درهم مرتين. أفريقية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين و من البسط مائة و عشرون. اليمن ثلاثمائة ألف دينار و سبعون ألف دينار سوى المتاع. الحجاز ثلاثمائة ألف د ينار انتهي.
و أما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.
و رأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة آلاف قنطار و خمسمائة قنطار في كل سنة فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض و لاتنكرن ما ليس بمعهود عندك و لا في عصرك شيىء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار و ليس ذلك من الصواب فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة و من أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها و نحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس و بني أمية و العبيديين و ناسبنا الصحيح من ذلك و الذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل بالنسبة إليها وجدنا بينها بوناً و هو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها و عمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه و لا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة و الوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض و التواتر و فيها المعاين و المشاهد من آثار البناء و غيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها و ضخامتها أو صغرها و اعتبر ذلك بما نقصه عليك من هذه الحكاية المستظرفة.
و ذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق و تقلب في بلاد العراق و اليمن و الهند و دخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند و هو السلطان محمد شاه و اتصل بملكها لذلك العهد و هو فيروزجوه و كان له منه مكان و استعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله ثم انقلب إلى المغرب و اتصل بالسلطان أبي عنان و كان يحدث عن شأن رحلته و ما رأى من العجائب بممالك الأرض و أكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند و يأتي من أحواله بما يستغربه السامعون مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال و النساء و الولدان و فرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه و أنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد و يطوفون به و ينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم و الدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه و أمثال هذه الحكايات فتناحى الناس بتكذيبه و لقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن و أريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه.
فقال لي الوزير فارس إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن و ذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه و مكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلما أدرك و عقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال و ما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها و نعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه و يقول أين الغنم من الفأر و كذا في لحم الإبل و البقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر و لهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله و ليكن مهيمناً على نفسه و مميزاً بين طبيعة الممكن و الممتنع بصريح عقله و مستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله و ما خرج عنه رفضه و ليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حداً بين الواقعات و أنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء فإنا إذا نظرنا أصل الشيء و جنسه و صنفه و مقدار عظمه و قوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله و حكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه، و قل ربي زدني علماً و أنت أرحم الراحمين و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه و أهل عصبيته بالموالي و المصطنعين
إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته و ظهراؤه على شأنه و بهم يقارع الخوارج على دولته و منهم يقلد أعمال مملكته و وزارة دولته و جباية أموله لأنهم أعوانه على الغلب و شركاؤه في الأمر و مساهموه في سائر مهماته هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه فإذا جاء الطور الثاني و ظهر الاستبداد عنهم و الانفراد بالمجد و دافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه و احتاج في مدافعتهم عن الأمر و صدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم و يتولاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم و أخص به قرباً و اصطناعاً و أولى إيثاراً و جاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم و الرتبة التي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدولة و يخصهم بمزيد التكرمة و الإيثار و يقسم لهم ما للكثير من قومه و يقلدهم جليل الأعمال و الولايات من الوزارة و القيادة و الجباية و ما يختص به لنفسه و تكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون و نصحاؤه المخلصون و ذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة و علامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها.
و مرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان و عداوة السلطان فيضطغنون عليه و يتربصون به الدوائر و يعود وبال ذلك على الدولة و لا يطمع في برئها من هذا الداء لأنه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن ذهب رسمها و اعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم و ولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي و قاص و عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف و المهلب بن أبي صفرة و خالد بن عبد الله القسري و ابن هبيرة و موسى بن نصير و بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري و نصر بن سيار و أمثالهم من رجالات العرب و كذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد و كبح العرب عن التطاول للولايات صارت الوزارة للعجم و الصنائع من البرامكة و بني سهل بن نوبخت و بني طاهر ثم بني بويه و موالي الترك مثل بغا و وصيف و أثلمش و باكناك و ابن طولون و أبنائهم و غير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها و العز لغير من اجتلبه سنة الله في عباده و الله تعالى أعلم.

الفصل العشرون في أحوال الموالي و المصطنعين في الدول
إعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم و حديثهم في الالتحام بصاحبها و السبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة و المغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام و القربى و التخاذل في الأجانب و البعداء كما قدمناه و الولاية و المخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك لأن أمر النسب و إن كان طبيعياً فإنما هو وهمي و المعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة و المدافعة و طول الممارسة و الصحبة بالمربى و الرضاع و سائر أحوال الموت و الحياة و إذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة و التناصر و هذا مشاهد بين الناس و اعتبر مثله في الاصطناع فإنه يحدث بين المصطنع و من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة و تؤكد اللحمة و إن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل و بين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج و عقائدها أصح و نسبها أصرح لوجهين أحدهما أنهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فينزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم و أهل أرحامهم و إذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى. و لأهل القرابة عن أهل الولاية و الاصطناع لما تقتضيه أحوال الرئاسة و الملك من تميز الرتب و تفاوتها فتتميز حالتهم و يتنزلون منزلة الأجانب و يكون الالتحام بينهم أضعف و التناصر لذلك أبعد و ذلك انقص من الاصطناع قبل الملك.
الوجه الثاني أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان و يخفي شأن تلك اللحمة و يظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية و أما بعد الملك فيقرب العهد و يستوي في معرفته الأكثر فتتبين اللحمة و تتميز عن النسب فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة و اعتبر ذلك في الدول و الرئاسات تجده فكل من كان اصطناعه قبل حصول الرئاسة و الملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به و أقرب قرابةً إليه و يتنزل منه منزلة أبنائه و إخوانه و ذوي رحمه و من كان اصطناعه بعد حصول الملك و الرئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة و اللحمة ما للأولين و هذا مشاهد بالعيان حتى أن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى الشمال الأجانب و اصطناعهم و لا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة لقرب العهد حينئذ بأوليتهم و مشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين في مهاوي الضعة.
و إنما يحمل صاحب الدولة على اصطناعهم و العدول إليهم عن أوليائها الأقدمين و صنائعها الأولين ما يعتريهم في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة و قلة الخضوع له و نظره بما ينظره به قبيله و أهل نسبه لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى و الاتصال بآبائه و سلف قومه و الانتظام مع كبراء أهل بيته فيحصل لهم بذلك دالة عليه و اعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدولة و يعدل عنهم إلى استعمال سواهم و يكون عهد استخلاصهم و اصطناعهم قريباً فلا يبلغون رتب المجد و يبقون على حالهم من الخارجية و هكذا شأن الدول في أواخرها و أكثر ما يطلق اسم الصنائع و الأولياء على الأولين و أما هؤلاء المحدثون فخدم و أعوان والله ولي المؤمنين و هو على كل شيء وكيل.

الفصل الحادي و العشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان و الاستبداد عليه
إذا استقر الملك في نصاب معين و منبت واحد من القبيل القائمين بالدولة و انفردوا به و دفعوا سائر القبيل عنه و تداوله بنو واحداً بعد واحد بحسب الترشيح فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم و حاشيتهم و سببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه و خوله و يؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه و حاشيته و مواليه أو قبيله و يوري بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد و يجعل ذلك ذريعة للملك فيححب الصبي عن الناس و يعوده إليها ترف أحواله و يسيمه في مراعيها متى أمكنه و ينسيه النظر في الأمور السلطانية حتى يستبد عليه و هو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير إعطاء الصفقة و خطاب التهويل و القعود مع النساء خلف الحجاب و أن الحل و الربط و الأمر و النهي و مباشرة الأحوال الملوكية و تفقدها من النظر في الجيش و المال و الثغور أنما هو للوزير و يسلم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة و الاستبداد و يتحول الملك إليه و يؤثر به عشيرته و أبناءه من بعده كما وقع لبني بويه و الترك و كافور الأخشيدي و غيرهم بالمشرق و للمنصور بن أبي عامر بالأندلس.
و قد يتفطن ذلك المحجور المغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر و الاستبداد و يرجع الملك إلى نصابه و يصرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط إلا أن ذلك في النادر الأقل لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء و الأولياء استمر لها ذلك و قل أن تخرج عنه لأن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف و نشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمة قد نسوا عهد الرجولة و ألفوا أخلاق الدايات و الأظار و ربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة و لا يعرفون استبداداً من تغلب إنما همهم في القنوع بالأبهة و التنفس في اللذات و أنواع الترف و هذا التغلب يكون للموالي و المصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم و انفرادهم به دونهم و هو عارض للدولة ضروري كما قدمناه و هذان مرضان لابرء للدولة منهما إلا في الأقل النادر و الله يؤتي ملكه من يشاء و هو على كل شيء قدير.

الفصل الثاني و العشرون في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك
و ذلك أن الملك و السلطان حصل لأوليه منذ أول الدولة بعصبية قومه و عصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له و لقومه صبغة الملك و الغلب و هي لم تزل باقية و بها انحفظ رسم الدولة و بقاؤها و هذا المتغلب و إن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي و الصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها و ليس له صبغة في الملك و هو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنهي و الحل و العقد و الإبرام و النقض يوهم فيها أهل الدولة أنه متصرف عن سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك و شاراته و ألقى به جهده و يبعد نفسه عن التهمة بذلك.
و إن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان و أولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة و مغالط عنه بالنيابة و لو تعرض لشيىء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية و قبيل الملك و حاولوا الإستئثار به دونه لأنه لم يستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له و الانقياد فيهلك لأول وهلة و قد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن منصور بن أبي عامر حين سمى إلى مشاركة هشام و أهل بيته في لقب الخلافة و لم يقنع بما قنع به أبوه و أخوه من الاستبداد بالحل و العقد و المراسم المتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان و سائر قريش و بايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر و خرجوا عليهم و كان في ذلك خراب دولة العامريين و هلاك المؤيد خليفتهم و استبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها و اختلت مراسم ملكهم و الله خير الوارثين.

الفصل الثالث و العشرون في حقيقة الملك و أصنافه
الملك منصب طبيعي للإنسان لأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم و وجودهم إلا باجتماعهم و تعاونهم على تحصيل قوتهم و ضرورياتهم و إذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة و اقتضاء الحاجات و مد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم و العدوان بعضهم على بعض و يمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب و الألفة و مقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة و هي تؤدي إلى الهرج و سفك الدماء و إذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع و هو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض و احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع و هو الحاكم عليهم و هو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم و لا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها و المدافعات لا تتم إلا بالعصبية و هذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات و يحتاج إلى المدافعات. و لا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر و العصبيات متفاوتة و كل عصبية فلها تحكم و تغلب على من يليها من قومها و عشيرها و ليس الملك لكل عصبية و إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية و يجبي الأموال و يبعث البعوث و يحمي الثغور و لا تكون فوق يده يد قاهرة و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان و لملوك العجم صدر الدولة العباسية. و من قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات، و الضرب على سائر الأيدي و كان فوقه حكم غيره فهو أيضاً ملك ناقص لم تتم حقيقته و هؤلاء مثل أمراء النواحي و رؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة و كثيراً ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديين و زناتة مع الأمويين تارة و العبيديين تارةً أخرى و مثل ملوك العجم في دولة بني العباس و مثل ملوك الطوائف من الفرس مع الاسكندر و قومه اليونانيين و كثير من هؤلاء فاعتبره تجده و الله القاهر فوق عباده.

الفصل الرابع و العشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك و مفسد له في الأكثر
إعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته و جسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو أتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه و إنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإن الملك و السلطان من الأمور الإضافية و هي نسبة بين منتسبين فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم فالسلطان من له رعية و الرعية من لها سلطان و الصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تسمى الملكة و هي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة و توابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم و إن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم و إهلاكاً لهم.
و يعود حسن الملكة إلى الرفق فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس و تعديد ذنوبهم شملهم الخوف و الذل و لاذوا منه بالكذب و المكر و الخديعة فتخلقوا بها و فسدت بصائرهم و أخلاقهم و ربما خذلوه في مواطن الحروب و المدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات و ربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة و يخرب السياج و إن دام أمره عليهم و قهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً و فسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية و إذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه و لاذوا به و أشربوا محبته و استماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كل جانب و أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم و المدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك و أما النعمة عليهم و الإحسان لهم فمن حملة الرفق بهم و النظر لهم في معاشهم و هي أصل كبير من التحبب إلى الرعية و أعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس و أكثر ما يوجد الرفق في الغفل و المتغفل و أقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم و إطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعية فيهلكون لذلك قال صلى الله عليه و سلم سيروا على سير أضعفكم. و من هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء، و مأخذه من قصة زياد ابن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق و قال له لم عزلتني يا أمير المؤمنين لعجز أم لخيانة فقال عمر لم أعزلك لواحدة منهما و لكني كرهت أن أحمل فضل عقلك عن الناس، فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء و الكيس مثل زياد بن أبي سفيان و عمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف و سوء الملكة و حمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب و الله خير المالكين و تقرر من هذا أن الكيس و الذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود و الطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية و المحمود هو التوسط كما في الكرم مع التبذير و البخل و كما في الشجاعة مع الهوج و الجبن و غير ذلك من الصفات الإنسانية و لهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان فيقال شيطان و متشيطن و أمثال ذلك و الله يخلق ما يشاء و هو العليم القدير.

الفصل الخامس و العشرون في معنى الخلافة و الإمامة
لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر و مقتضاه التغلب و القهر اللذان هما من آثار الغضب و الحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه و شهواته و يختلف في ذلك باختلاف المقاصد من الخلف و السلف منهم متعسر طاعته لذلك و تجيء العصبية المفضية إلى الهرج و القتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة و ينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس و غيرهم من الأمم و إذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها و لم يتم استيلاؤها سنة الله في الذين خلوا من قبل فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء و أكابر الدولة و بصرائها كانت سياسة عقلية و إذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها و يشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا و في الآخرة و ذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عبث و باطل إذ غايتها الموت و الفناء، و الله يقول أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة و معاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع. فما كان منه بمقتضى القهر و التغلب و إهمال القوة العصبية في مرعاها فجور و عدوان و مذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية و ما كان منه بمقتضى السياسة و أحكامها فمذموم أيضاً لأنه نظر بغير نور الله و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم و أعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلى الله عليه و سلم: إنما هي أعمالكم ترد عليكم. و أحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط يعلمون ظاهراً من حياة الدنيا و مقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم و آخرتهم و كان هذا الحكم لأهل الشريعة و هم الأنبياء و من قام فيه مقامهم و هم الخلفاء فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة و أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية و دفع المضار و الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به فأفهم ذلك و اعتبره فيما نورده عليك من بعد و الله الحكيم العليم.

الفصل السادس و العشرون فى اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب و شروطه
و إذ قد بينا حقيقة هذا المنصب و أنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين و سياسة الدنيا به تسمى خلافة و إمامة و القائم به خليفة و إماماً فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في أتباعه و الإقتداء به و لهذا يقال الإمامة الكبرى و أما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال خليفة بإطلاق و خليفة رسول الله و اختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدمين في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة و قوله جعلكم خلائف الأرض.
و منع الجمهور منه لأن معنى الآية ليس عليه و قد نهى أبو بكر عنه لما دعي به و قال: لست خليفة الله و لكني خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم. و لأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب و أما الحاضر فلا. ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة و التابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه و تسليم النظر إليه في أمورهم و كذا في كل عصر من بعد ذلك و لم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام. و قد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل، و أن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه.
قالوا و إنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر و استحالة حياتهم و وجودهم منفردين و من ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر و انقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية و هذا المعنى بعينه هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبؤات في البشر و قد نبهنا على فساده و أن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان ما و اعتقاد و هو غير مسلم لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك و قهر أهل الشوكة و لو لم يكن شرع كما في أمم المجوس و غيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك و نصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع و التظالم فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة فدل على أن مدرك وجوبه أنما هو بالشرع و هو الاجماع الذي قدمناه.
و قد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل و لا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة و بعض الخوارج و غيرهم، و الواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل و تنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام و لا يجب نصبه و هؤلاء محجوجون بإلإجماع. و الذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك و مذاهبه من الاستطالة و التغلب و الاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك و النعي على أهله و مرغبة في رفضه. و أعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته و لا حظر القيام به لم إنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر و الظلم و التمتع باللذات و لا شك أن في هذه مفاسد محظورة و هي من توابعه كما أثنى على العدل و النصفة و إقامة مراسم الدين و الذب عنه و أوجب بإزائها الثواب و هي كلها من توابع الملك.
فإذاً إنما وقع الذم للملك على صفة و حال دون حال أخرى و لم يذمه لذاته و لا طلب تركه كما ذم الشهوة و الغضب من المكلفين و ليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليه و أما المراد تصريفهما على مقتضى الحق و قد كان لداود و سليمان صلوات الله و سلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما و هما من أنبياء الله تعالى و أكرم الخلق عنده ثم نقول لهم أن هذا الفرار عن الملك بعدم و جوب هذا النصب لا يغنيكم شيئاً لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة و ذلك لا يحصل إلا بالعصبية و الشوكة و العصبية مقتضية بطبعها للمك فيحصل الملك و إن لم ينصب إمام و هو عين ما قررتم عنه. و إذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية و راجع إلى اختيار أهل العقد و الحل فيتعين عليهم نصبه و يجب على الخلق جميعاً طاعته لقوله تعالى أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.
و أما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم و العدالة و الكفاية و سلامة الحواس و الأعضاء مما يؤثر في الرأي و العمل و اختلف في شرط خامس و هو النسب القرشي فأما اشتراط العلم فطاهر لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها و ما لم يعلنها لا يصح تقديمه لما و لا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهداً لأن التقليد نقص و الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف و الأحوال و أما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه.
و لاخلاف في انتقاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات و أمثالها و في انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف.
و أما الكفاية فهو أن يكون جزئياً على إقامة الحدود و اقتحام الحروب بصيراً بها كفيلاً يحمل الناس عليها عارفاً بالعصبية و أحوال الدهاء قوياً على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين و جهاد العدو و إقامة الأحكام و تدبير المصالح.
و أما سلامة الحواس و الأعضاء من النقص و العطلة كالجنون و العمى و الصمم و الخرس و ما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين و الرجلين و الأنثيين فتشترط السلامة منها كلها لتأثير ذلك في تمام عمله و قيامه بما جعل إليه و إن كان إنما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منه شرط كمال و يلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف و هو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب و هو القهر و العجز عن التصرف جملة بالأسر و شبهه و ضرب لا يلحق بهذه و هو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان و لا مشاقة فينتقل النظر في حال هذا المستولى فإن جرى على حكم الدين و العدل و حميد السياسة جاز قراره و إلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك و يدفع علته حتى ينفذ فعل الخليفة.
و أما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك و احتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة و قالوا: منا أمير و منكم أمير. بقوله صلى الله عليه و سلم: الأئمة من قريش. و بأن النبي صلى الله عليه و سلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم و نتجاوز عن مسيئكم و لو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم فحجوا الأنصار و رجعوا عن قولهم منا أمير و منكم أمير و عدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك. و ثبت أيضاً في الصحيح لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش و أمثال هذه الأدلة كثيرة إلا أنه لما ضعف أمر قريش و تلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف و النعيم و بما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة و تغلبت عليهم الأعاجم و صار الحل و العقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي طه اشتراط القرشية و عولوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم: اسمعوا و أطيعوا و إن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة. و هذا لا تقوم به حجة ذلك فإنه خرج مخرج التمثيل و الغرض للمبالغة في إيجاب السمع و الطاعة و مثل قول عمر لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته أو لما دخلتني فيه الظنة و هو أيضاً لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة و أيضاً فمولى القوم منهم و عصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش و هي الفائدة في اشتراط النسب و لما استعظم عمر أمر الخلافة و رأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر و لم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية و هي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصاً من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين و تقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة و لا عليه فيه عهدة.
و من القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي و الاضمحلال و استبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشية و إن كان موافقاً لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده و بقي الجمهور على القول باشتراطها و صحة الإمامة للقرشي و لو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين و رد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية و إذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً إلى العلم والدين و سقط اعتبار شروط هذا المنصب و هو خلاف الاجتماع.
و لنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول: أن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد و حكم تشتمل عليها و تشرع لأجلها و نحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي و مقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه و سلم كما هو في المشهور و إن كانت تلك الوصلة موجودة و التبرك بها حاصلاً لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب و هي المقصودة من مشروعيتها و إذا سبرنا و قسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية و المطالبة و يرتفع الخلاف و الفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة و أهلها و ينتظم حبل الإلفة فيها و ذلك أن قريشاً كانوا عصبة مضر و أصلهم و أهل الغلب منهم و كان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة و العصبية و الشرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك و يستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم و عدم انقيادهم و لا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف و لا يحملهم على الكرة فتتفرق الجماعة و تختلف الكلمة.
و الشارع محذر من ذلك حريص على أتفاقهم و رفع التنازع و الشتات بينهم لتحصل اللحمة و العصبية و تحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم و لا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها و منع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب و هم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة و أتفاق الكلمة و إذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب و انقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة و وطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات و استمر بعدها في الدولتين إلى أن أضمحل أمر الخلافة و تلاشت عصبية العرب و يعلم ما كان لقريش من الكثرة و التغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب و سيرهم و تفطن لذلك في أحوالهم.
و قد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السير و غيره فإذا ثبت أن اشتراط القرشية أنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية و الغلب و علمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل و لا عصر و لا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها و طردنا الملة المشتملة على المقصود من القرشية و هي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم و تجتمع الكلمة على حسن الحماية و لا يعلم ذلك في الأقطار و الآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة و عصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم و إنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة و إذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم و يردهم عن مضارهم و هو مخاطب بذلك و لا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب في شأن النساء و أنهن في كبير من الأحكام الشرعية جعلن تبعاً للرجال و لم يدخلن في الخطاب بالوضع. و إنما دخلن عنده بالقياس و ذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء و كان الرجال قوامين عليهن اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ثم أن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم و قل أن يكون الآمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي و الله تعالى أعلم.

الفصل السابع و العشرون في مذاهب الشيعة في حكم الأمامة
إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب و الأتباع و يطلق في عرف الفقهاء و المتكلمين من الخلف و السلف على اتباع علي و بنيه رضي الله عنهم و مذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإقامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة و يتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين و قاعدة الإسلام و لا يجوز لنبي إغفاله و لا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم و يكون معصوماً من الكبائر و الصغائر و أن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله و سلامه عليه بنصوص ينقلونها و يؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة و لا نقله الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة.
و تنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي و خفي فالجلي مثل قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه. قالوا و لم تطرد هذه الولاية إلا في علي و لهذا قال له عمر أصبحت مولى كل مؤمن و مؤمنة و منها قوله: أقضاكم علي و لا معنى للأمامة إلا القضاء بأحكام الله و هو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. و المراد الحكم و القضاء و لهذا كان حكماً في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره و منها قوله من يبايعني على روحه و هو وصي و ولي هذا الأمر من بعدي فلم يبايعه إلا علي.
و من الخفي عندهم بعث النبي صلى الله عليه و سلم علياً لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ قالوا: و هذا يدل على تقديم علي. و أيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي. و أما أبو بكر و عمر فقدم عليهما في غزاتين أسامة بن زيد مرة و عمر بن العاص أخرى و هذه كلها أدلة شاهدة بتعيين علي للخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف و منها ما هو بعيد عن تأويلهم ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي و تشخيصه. و كذلك تنتقل منه إلى من بعده و هؤلاء هم الإمامية و يتبرأون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً و يبايعوه بمقتضى هذه النصوص و يغمصون في إمامتهما و لا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا و عندهم و منهم من يقول أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص و الناس مقصرون حيث لم يصغوا الوصف موضعه و هؤلاء هم الزيدية و لا يتبرأون من الشيخين و لا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد علي فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على ما يذكر بعد و هؤلاء يسمون الإمامية نسبةً إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام و تعيينه في الإيمان و هي أصل عندهم و منهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ و يشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداً شجاعاً و يخرج داعياً إلى إمامته و هؤلاء هم الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب و هو زيد بن علي بن الحسين السبط و قد كان يناظر أخاه محمداً الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماماً لأنه لم يخرج و لا تعرض للخروج و كان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة و أخذه إياها عن واصل بن عطاء و لما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين و رأوه يقول بإمامتهما و لا يتبرأ منهما رفضوه و لم يجعلوه من الأئمة و بذلك سموا رافضة و منهم من ساقها بعد علي و ابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية ثم إلى ولده و هم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه و بين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً و منهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل و الإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات الألوهية أو أن الإله حل في ذاته البشرية و هو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه و لقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم و سخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته و البراءة منه و كذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه و منهم من يقول إن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال و هو قول بالتناسخ و من هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم و هؤلاء هم الواقفية فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس و يستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه لم أنه في السحاب و الرعد صوته و البرق في صوته و قالوا مثله في محمد بن الحنيفة و إنه في جبل رضوى من أرض الحجاز.
و قال شاعرهم.
ألا أن الأئمة من قريش       ولاة الحق أربعة سواء
علي و الثلاثة من بنيه      هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان و بر      و سبط غيبته كربلاء
و سبط لا يذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل و ماء
و قال مثله غلاة الإمامية و خصوصاً الاثنا عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم و هو محمد بن الحسن العسكري و يلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم في الحلة و تغيب حين اعتقل مع أمه و غاب هنالك و هو يخرج آخر الزمال فيملأ الأرض عدلاً يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي و هم إلى الآن ينتظرونه و يسمونه المنتظر لذلك، و يقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب و قد قدموا مركباً فيهتمون باسمه و يدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون و يرجئون الأمر إلى الليلة الآتية و هم على ذلك لهذا العهد و بعض هؤلاء الواقفية يقول أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا و يستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف و الذي مر على قرية و قتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها و مثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة و لا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها و كان من هؤلاء السيد الحميري و من شعره في ذلك
إذا ما المرء شاب له قذال وعلله المواشط بالخضاب
فقد ذهبت بشاشته و أودى فقم يا صاح نبك على الشباب
إلى يوم تتوب الناس فيه إلى دنياهم قبل الحساب
فليس بعائد مافات منه      إلى أحد إلى يوم الإياب
أدين بأن ذلك دين حق      وما أنا في النشور بذي ارتياب
كذاك الله أخبر عن أناس      حيوا من بعد درس في التراب
و قد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة فإنهم لا يقولون بها و يبطلون احتجاجاتهم عليها و أما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم و هؤلاء هم الهاشمية ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي و آخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و أوصى محمد إلى ابنه ابراهيم المعروف بالإمام و أوصى هو إلى أخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح و أوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور و انتقلت في ولده بالنص و العهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم و هذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس و كان منهم أبو مسلم و سليمان بن كثير و أبو سلمة الخلال و غيرهم من شيعة العباسية و ربما يعضدون ذلك بأن حقهم في هذا الأمر يصل إليه من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة و هو أولى بالوراثة بعصبية العمومة و أما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها و إنها باختيار أهل الحل و العقد لا بالنص فقالوا بإمامة علي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه زيد بن علي و هو صاحب هذا المذهب و خرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل و صلب بالكناسة و قال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان و قتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط و يقال له النفس الزكية، فخرج بالحجاز و تلقب بالمهدي و جاءته عساكر المنصور فقتل و عهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة و معه عيسى بن زيد بن علي فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم و قتل إبراهيم و عيسى و كان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كله و هي معدودة في كراماته و ذهب آخرون منهم إلى أن الامام بعد محمد ابن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر، و عمر هو أخو زيد بن علي فخرج محمد بن القاسم بالطالقان فقبض عليه و سيق إلى المعتصم فحبسه و مات في حبسه و قال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حصر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور و نقلوا الإمامة في عقبه و إليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم و قال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوة إدريس الذي فر إلى المغرب و مات هنالك و قام بأمر ابنه إدريس و اختط مدينة فاس و كان من بعده عقبه ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. و بقي أمر الزيدية بعد ذلك غير منتظم و كان منهم الذاعي الذي ملك طبرستان و هو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط و أخوه محمد بن زيد ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم، و أسلموا على يده و هو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر و عمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة و توصل الديلم من نسبهم إلى الملك و الاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. و أما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضى إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق و من هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقها إلى ولده إسماعيل و يعرفونه بينهم بالإمام و هم الاسماعيلية و فرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم و هم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأئمة و قولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر فأما الإسماعيلية فقالوا بإمامة اسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر و فائدة النص عليه عندهم و إن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما قالوا انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم و هو أول الأئمة المستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر و تكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق و إذا كانت له شوكة ظهر و أظهر دعوته قالوا و بعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق و بعده ابنه محمد الحبيب و هو آخر المستورين و بعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة و تتابع الناس على دعوته ثم أخرجه من معتقله بسجلماسة و ملك القيروان و المغرب و ملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم و يسمى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل و يسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور و يسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد و لهم مقالات قديمة و مقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة و ملك حصوناً بالشام و العراق و لم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر و ملوك التتر بالعراق فانفرضت. و مقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل و النحل للشهرستاني. و أما الاثنا عشرية فربما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذي عهد إليه المأمون و مات قبله لم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه محمد الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل و في كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير إلا أن هذه أشهر مذاهبهم و من أراد استيعابها و مطالعتها فعليه بكتاب الملل و النحل لابن حزم و الشهرستاني و غيرهما ففيها بيان ذلك و الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و هو العلي الكبير.

الفصل الثامن و العثسرون في انقلاب الخلافة إلى الملك
إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود و ترتيبه كما قلناه من قبل و أن الشرائع و الديانات و كل أمر يحل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه.
فالعصبية ضرورية للملة و بوجودها يتم أمر الله منها و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية و ندب إلى إطراحها و تركها فقال: إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء أنتم بنو آدم و آدم من تراب، و قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم و وجدناه أيضاً قد ذم الملك و أهله و نعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق و الإسراف في غير القصد و التنكب عن صراط الله و إنما حض على الإلفة في الدين و حذر من الخلاف و الفرقة، و أعلم أن الدنيا كلها و أحوالها مطية للآخرة و من فقد المطية فقد الوصول، و ليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله و تعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً و تتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه و سلم: من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. فلم يذم الغضب و هو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق و بطل الجهاد و إعلاء كلمة الله و إنما يذم الغضب للشيطان و للأغراض الذميمة فإذا كان الغصب لذلك كان مذموماً و إذا كان الغضب في الله و لله كان ممدوحاً و هو من شمائله صلى الله عليه و سلم و كذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه و إنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية و كذا العصبية حيث ذمها الشارع و قال لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل و أحواله كما كانت في الجاهلية و أن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد لأن ذلك مجال من أفعال العقلاء و غير نافع في الآخرة التي هي دار القرار فأما إذا كانت العصبية في الحق و إقامة أمر الله فأمر مطلوب و لو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل و كذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق و قهر الكافة على الدين و مراعاة المصلح و إنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل و تصريف الآدميين طوع الأغراض و الشهوات كما قلناه، فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله و لحملهم على عبادة الله و جهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً و قد قال سليمان صلوات الله عليه: ربي هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي.
لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبؤة و الملك. و لما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد و العدة استنكر ذلك و قال: أكسروية يا معاوية فقال يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو و بنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب و الجهاد حاجة فسكت و لم يخطئه لما احتج عليه بمقصد من مقاصد الحق و الدين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب في تلك الكسروية و انتحالها بل كان يحرض على خروجه عنها بالجملة و إنما أراد عمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل و الظلم و البغي و سلوك شبله و الغفلة عن الله و أجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس و باطلهم و إنما قصده بها وجه الله فسكت، و هكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك و أحواله و نسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه و سلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين و ارتضاه الناس للخلافة و هي حمل الكافة على أحكام الشريعة و لم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل و نخلة يومئذ لأهل الكفر و أعداء الدين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره و قاتل الأمم فغلبهم و أذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدنيا و الملك فغلبوهم عليه و انتزعوه منهم ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضى عنهما و الكل متبرئون من الملك منكبون عن طرقه و أكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من عضاضة الإسلام و بداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا و ترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم و لا من حيث بداوتهم و مواطنهم و ما كانوا عليه من خشونة العيش و شظفه الذي ألفوه، فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع و لا ضرع و كانوا ممنوعين من الأرياف و حبوبها لبعدها و اختصاصها بمن وليها من ربيعة و اليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها و لقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب و الخنافس و يفخرون بأكل العلهز و هو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم و يطبخونه و قريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم و مساكنهم حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه و سلم زحفوا إلى أمم فارس و الروم و طلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق فابتزوا ملكهم و استباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على مالا يأخذه الحصر و هم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد و كان علي يقول: يا صفراء و يا بيضاء غري غيري و كان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ و كانت المناخل مفقودةً عندهم بالجملة و إنما يأكلون الحنطة بنخالها و مكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم قال: المسعودي في أيام عثمان أفتى الصحابة الضياع و المال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون و مائة ألف دينار و ألف ألف درهم و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائتا ألف دينار و خلف إبلاً و خيلاً كثيرةً و بلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار و خلف ألف فرس و ألف أمة و كانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم و من ناحية السراة أكثر من ذلك و كان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة و ثمانين ألفاً و خلف زيد بن ثابت من الفضة و الذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال و الضياع بمائة ألف دينار و بنى الزبير داره بالبصرة و كذلك بنى بمصر و الكوفة والإسكندرية و كذلك بنى طلحة داره بالكوفة و شيد دارة بالمدينة وبناها بالجص و الآجر و الساج و بنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق و رفع سمكها و أوسع فضاءها و جعل على أعلاها شرفات و بنى المقداد داره بالمدينة و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن و خلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار و عقاراً و غير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم من كلام المسعودي. فكانت مكاسب القوم كما تراه و لم يكن ذلك منيعاً عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنها غنائم و فيوء و لم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم و أن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف و الخروج به عن القصد و إذا كان حالهم قصداً و نفقاتهم في سبيل الحق و مذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق و اكتساب الدار الآخرة فلما تدرجت البداوة و الغضاضة إلى نهايتها و جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه و حصل التغلب و القهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه و الاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة و مذاهب الحق، و لما وقعت الفتنة بين علي و معاوية و هي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق و الاجتهاد و لم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد و إنما اختلف اجتهادهم في الحق و سفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه و إن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق و أخطأ و الكل كانوا في مقاصدهم على حق ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد و استئثار الواحد به و لم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه و قومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها و استشعرته بنو أمية و من لم يكن على طريقة معاويه في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه و استماتوا دونه و لو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة و خالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة التي كان جمعها و تأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة و قد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة و لو أراد أن يعهد إليه لفعل و لكنة كان يخشى من بنى أمية أهل الحل و العقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة. و هذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية فالملك إذا حصل و فرضنا أن الواحد انفرد به و صرفه في مذاهب الحق و وجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه و لقد انفرد سليمان و أبوه داود صلوات الله عليهما بملك بنى إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبؤة و الحق و كذلك عيد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً و لا يرتاب أحد في ذلك و لا يظن بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك و كذلك كان مروان بن الحكم و ابنه و أن كانوا ملوكاً لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة و البغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع و الإقتداء و ما علم السلف من أحوالهم و مقاصدهم فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عند الملك و أما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين و عدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك و كانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه و توسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة و الصحابة جهده و لم يهمل. ثم جاء خلفهم و استعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية و مقاصدهم و نسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها و اعتماد الحق في مذاهبها فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم و أدالوا بالدعوة العباسية منهم و ولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان و صرفوا الملك في وجوه الحق و مذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح و الطالح ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك و الترف حقه و انغمسوا في الدنيا و باطلها و نبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم و انتزاع الأمر من أيدي العرب جملة و أمكن سواهم و الله لا يظلم مثقال ذرة. و من تأمل سير هؤلاء الخلفاء و الملوك و اختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه و قد حكاه المسعودي مثله في أحوال بنى أمية عن أبي جعفر المنصور و قد حصر عمومته و ذكروا بني أمية فقال: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع و أما سليمان فكان همه بطنه و فرجه و أما عمر فكان أعور بين عميان و كان رجل القوم هشام قال و لم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه و يصونون ما و هب الله لهم منه مع تسلمهم معالي الأمور و رفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات و ركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه و أمناً لكره مع اطراحهم صيانة الخلافة و استخفافهم بحق الرئاسة و ضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز و ألبسهم الذل و نفى عنهم النعمة ثم استحضر عبد الله ابن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض و قد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا فقال إني ملك و حق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثم قال لي: لم تشربون الخمر و هي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا و أتباعنا قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم و الفساد محرم عليكم ؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا و أتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الديباج و الذهب و الحرير و هو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت: ذهب منا الملك و انتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا، فأطرق ينكث بيده في الأرض و يقول عبيدنا و أتباعنا و أعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي و قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل بذنوبكم و لله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم و أنا خائف أن يحل بكم العذاب و أنتم ببلدي فينالني معكم و إنما الضيافة ثلاث فتزود ما احتجت إليه و ارتحل عن أرضي فتعجب المنصور و أطرق فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك و أن الأمر كان في أوله خلافة و وازع كل أحد فيها من نفسه و هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و أن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر و ابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى و منع من سل السيوف بين السلمين مخافة الفرقة و حفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدى إلى هلاكه. و هذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية و طلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته و تتفق الكلمة و له بعد ذلك ما شاء من أمره و كان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام و غدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق و النصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي: لا و الله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس و غششتني اليوم و لكن منعني مما أشرت به زائد الحق و هكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم و نحن:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك و بقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه و الجري على منهاج الحق و لم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبيةً و سيفاً و هكذا كان الأمر لعهد معاوية و مروان و ابنه عبد الملك و الصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد و بعض ولده ثم ذهبت معاني الخلافة و لم يبق إلا اسمها و صار الأمر ملكاً بحتاً و جرت طبيعة التغلب إلى غايتها و استعملت في أغراضها من القهر التقلب في الشهوات و الملاذ و هكذا كان الأمر لولد عبد الملك و لمن جاء بعد الرشيد من بني العباس و اسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب و الخلافة و الملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض ثم ذهب رسم الخلافة و أثرها بذهاب عصبية العرب و فناء جيلهم و تلاشى أحوالهم وبقى الأمر ملكاً بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً و الملك بجميع ألقابه و مناحيه لهم و ليس للخليفة منه شيء و كذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين و مغراوة و بني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس و العبيديين بالقيروان فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا ثم التبست معانيهما و اختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة و الله مقدر الليل و النهار و هو الواحد القهار.

الفصل التاسع و العشرون في معنى البيعة
إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه و أمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك و يطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط و المكره و كانوا إذا بايعوا الأمير و عقدوا عهده جعلوا أيديهم في يديه تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري فسمي بيعةً مصدر باع و صارت البيعة مصافحةً بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة و معهود الشرع و هو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة و عند الشجرة وحيثما و رد هذا اللفظ و منه بيعة الخلفاء و منه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد و يستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا الاستيعاب إيمان البيعة و كان الإكراه فيها أكثر و أغلب و لهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه و رأوها قادحةً في أيمان البيعة، و وقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه و أما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية و التزام الآداب من لوازم الطاعة و توابعها و غلب فيه حتى صارت حقيقيةً عرفيةً و استغنى بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل و الابتذال المنافيين للرئاسة و صون المنصب الملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه و مشاهير أهل الدين من رعيته فافهم معنى البيعة في العزف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه و إمامه و لا تكون أفعاله عبثاً و مجاناً و اعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك و الله القوي العزيز.

الفصل الثلاثون في ولاية العهد
إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة و مشروعيتها لما فيها من المصلحة و أن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم و دنياهم فهو وليهم و الأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته و يتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته و يقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما و ثقوا به فيما قبل و قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه و انعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من الصحابة و أجازوه و أوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه و عنهم و كذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة و جعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد و ناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان و على علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك و أوجبوا طاعته و الملأ من الصحابة حاضرون للأولى و الثانية و لم ينكره أحد منهم فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته.
و الإجماع حجة كما عرف ولايتهم الإمام في هذا الأمر و أن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامه في الولد و الوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة في ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد و إن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب و الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم و هم عصابة قريش و أهل الملة أجمع و أهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها و عدل عن الفاضل إلى الفضول حرصاً على الاتفاق و اجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع.
و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك و سكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة و ليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك و عدالتهم مانعة منه و فرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه و لم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير و ندور المخالف معروف ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق و يعملون به مثل عبد الملك و سليمان من بني أمية و السفاح والمنصور والمهدي و الرشيد من بني العباس و أمثالهم ممن عرفت عدالتهم و حسن رأيهم للمسلمين و النظر لهم و لا يعاب عليهم إيثار أبنائهم و إخوانهم و خروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فأنهم كانوا على حين لم. تحدث طبيعة الملك و كان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط و آثروه على غيره و وكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه. و أما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك و الوازع الديني قد ضعف و احتيج إلى الوازع السلطاني و العصباني فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد و انتقض أمره سريعاً و صارت الجماعة إلى الفرقة و الاختلاف.
سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك و لم يختلفوا على أبي بكر و عمر فقال: لأن أبا بكر و عمر كانا واليين على مثلي و أنا اليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق و سماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك و نقضوا بيعته و بايعوا لعمه بن المهدي و ظهر من الهرج و الخلاف وانقطاع السبل و تعدد الثوار و الخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور و القبائل و العصبيات و تختلف باختلاف المصالح و لكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده و أما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية و الملك لله يؤتيه من يشاء، و عرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك و أفضل بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء و ينهاه عنه و هو أقل من ذلك و كانت مذاهبهم فيه مختلفة و لما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه و نقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين و عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما و من اتبعهما في ذلك و منهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة و كثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بنى أمية و جمهور أهل الحل و العقد من قريش و تستتبع عصبية مضر أجمع و هي أعظم من كل شوكة و لا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته و الراحة منه و هذا كان شأن جمهور المسلمين و الكل مجتهدون و لا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر و تحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم.
و الأمر الثاني هو شأن العهد مع النبي صلى الله عليه و سلم و ما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنه و هو أمر لم يصح و لا نقله أحد من أئمة النقل و الذي وقع في الصحيح من طلب الدواة و القرطاس ليكتب الوصية و أن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع و كذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن و سئل في العهد فقال: إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه و سلم لم يعهد و كذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى على من ذلك و قال إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر و هذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص و لا عهد إلى أحد و شبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون و ليس كذلك و إنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق و لو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة و لكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة و لكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة و احتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم تقع. و يدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة و العهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم و شأن العصبية المراعاة في الاجتماع و الافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين و الإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه و استماتة الناس دونه و ذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم و تردد خبر السماء بينهم و تجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد و الإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة و الأحوال الإلهية الواقعة و الملائكة المترددة التي وجموا منها و دهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة و الملك و العهد والعصبية و سائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً و ذهبت الخوارق و صار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبية و مجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح و المفاسد و أصبح الملك والخلافة و العهد بهما مهماً من المهمات الأكيدة كما زعموا و لم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد و شأن الردة و الفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل و الترك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثم صارت اليوم من أهم الأمور للإلفة على الحماية و القيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة و التخاذل و منشأ الاجتماع و التوافق الكفيل بمقاصد الشريعة و أحكامها.
و الأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة و التابعين فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية و ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة و المدارك المعتبرة و المجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين و من لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة و لا يتعين المخطئ منها و التأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً و إن قلنا إن الكل حق و إن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ و التأثيم و غاية الخلاف الذي بين الصحابة و التابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية و هذا حكمه و الذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو واقعة على مع معاوية و مع الزبير و عائشة و طلحة و واقعة الحسين مع يزيد و واقعة ابن الزبير مع عبد الملك فأما و واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي و الذين شهدوا فمنهم من بايع و منهم من توقف حتى يجتمع الناس و يتفقوا على إمام كسعد و سعيد و ابن عمر و أسامة بن زيد و المغيرة بن شعبة و عبد الله بن سلام و قدامة بن مظعون و أبى سعيد الخدري و كعب بن مالك و النعمان بن بشير و حسان بن ثابت و مسلمة بن مخلد و فضالة بن عبيد و أمثالهم من أكابر الصحابة و الذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان و تركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه و ظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك.
و لقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى علي أن بيعته قد انعقدت و لزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه و سلم و موطن الصحابة و أرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس و اتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك و رأى الآخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل و العقد بالآفاق و لم يحصر إلا قليل و لا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل و العقد و لا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم و إن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية و عمرو بن العاص و أم المؤمنين عائشة و الزبير و ابنه عبد الله و طلحة و ابنه محمد و سعد و سعيد و النعمان بن بشير و معاوية بن خديج و من كان على رأيهم من الصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي و لزومها للمسلمين أجمعين و تصويب رأيه فيما ذهب إليه و تعيين الخطأ من جهة معاوية و من كان على رأيه و خصوصاً طلحة و الزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين و صار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كما هو معروف.

....يتّبع.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق