هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته، و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور، على أساليب العرب و مناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة. من شعر عالي الطبقة، و سجع متساو في الإجادة، و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة. و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة. ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها. و كتب المحدثين في ذلك كثيرة. و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة. و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم. و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه. و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها. و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. و الله الهادي للصواب.
الفصل السادس و الأربعون: في أن اللغة ملكة صناعية
إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة. و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا. و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال. و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم. ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم و سبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيميز بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم و يسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر و أخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة و كانت ناقصة عن الأولى. و هذا معنى فساد اللسان العربي، و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف و هذيل و خزاعة و بني كنانة وغطفان و بني أسد و بني تميم. و أما من بعد عنهم من ربيعة و لخم و جذام و غسان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. و على نسبة بعدهم من قريش كان الإحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل الصناعة العربية. و الله سبحانة و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل السابع و الأربعون: في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حمير
و ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه. و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن. و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة: إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة. فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد. و الثاني: لمن سمعه فتردد فيه، و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد. و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم. و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك. و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب. و هو بعض من أحكام اللسان. و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى. و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة فخشي تناسيهما و انغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه و وضع مقاييسه و استباط قوانينه. و صار علما ذا فصول و أبواب و مقدمات و مسائل سماه أهله بعلم النحو و صناعة العربية فأصبح فنا محفوظا و علما مكتوبا و سلما إلى فهم كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وافيا. و لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موخودة فيه تكون بها قوانين تخصها. و لعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات و ملكاتها مجانا. و لقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة و تغير عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري و تصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة و يلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية و قوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول و كثير من أشباه هذا و ليس ذلك بصحيح. و لغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها و تصاريفها و حركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهفدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط و الاستقراء و ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك و يدعونا إليه. و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى. و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف و إن كان أسفل من موضع القاف و ما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التقرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها. و عندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. و يظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم و رؤساؤهم شرقا و غربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور و من بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. و هم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور و أغلبهم و هم من أعقاب مضر و سائر الجيل معهم من بني كهلان في النطق بهذه القاف أسوة. و هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة و يظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين و لعلها لغة النبي صلى الله عليه و سلم بعينها قد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت و زعموا أن من قرأ في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن و أفسد صلاته و لم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها و إنما تناقلوها من لدن سلفهم و كان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. و أهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا و غربا في النطق بها و أنها الخاصية التي يتميز بها العربى من الهجين و الحضري. و الظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، و أن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك و آخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك في لغة الأمصار، و النطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. و بهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. و بعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح و الأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، و أنها لغة النبي صلى الله عليه و سلم. و يرجح ذلك أيضا ادغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. و لو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، و لم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف. على أنها حرف مستقل، و هو بعيد. و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، و أنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله. و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، و إنهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. و الله الهادي المبين.
الفصل الثامن و الأربعون: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر
اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد. فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا. و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه. و هذا معنى اللسان و اللغة. و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد. و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى. و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق. أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة. و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد. و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة. و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. و الله يخلق ما يشاء و يقدر.
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات. و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال. و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر. و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها. و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه.
الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم
و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً. و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل. و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي , و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته. و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة. و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه. و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها. و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب. و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان. و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها. و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب.
الفصل الواحد و الخمسون: في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان. و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل و بغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل. و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي. و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع. و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك. و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم. و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم. و مثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها. و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه. و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم. و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه. و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق. و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك. و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم. و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة. و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنما حصل أحكامها كما عرفت. و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط. و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته. و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء. و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.
الفصل الثاني و الخمسون: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر
و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد. و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. و اعتبر ذلك في أهل الأمصار. فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا. و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله. و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا. و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف. و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا. و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية. و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض. و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها. و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية. و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه. ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم. ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه. و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده. و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها. و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس. و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق. و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم. و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية. و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم. واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها. و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه. و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث و الخمسون: في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر
اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية. و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام. فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها. و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم. و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. و قال: قد فصلنا الآيات. و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف. و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني. و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه. و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك. و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض. و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن. و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق. و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب. و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة. و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة. و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه. و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه. و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك. و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه. و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم.
الفصل الرابع و الخمسون: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معاً إلا للأقل
و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر. و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة. و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه. و كذا البربري و الرومي. و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي. و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان. و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع. و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم. و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية. و الله خلقكم و ما تعملون.
الفصل الخامس و الخمسون: في صناعة الشعر و وجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة. و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده. و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك. و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض. و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور. و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما. و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب. و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم. و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها. و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة. و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه. ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة. و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه. لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به. و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله: يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله: قفا نسأل الدار التي خف أهلها. أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل. أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم. و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: حي الديار بجانب الغزل. أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم
أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلا بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي. أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لا حام و لا راع مضى الردى بطويل الرمح و الباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألقى الرماح ربيعة بن نزار أودى الردى بفريقك المغوار
و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه. و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية، إسمية و فعلية، متفقة، مفصولة و موصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و الصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا. و لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس. و هو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية. و هذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها و الاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. و إن القوانين العلمية من العربية و البيان لا يفيد تعليمه بوجه. و ليس كل ما يصح في قياس كلام العرب و قوانينه العلمية استعملوه. و إنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو و بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم. و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع. و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب. و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي. نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب. و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا. و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه. و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له. و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي، و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها. فناسب أن يكون حدا عندهم، و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة. و الوزن و القوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف، المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء. و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور. و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم. و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس. و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية. و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط. و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ. و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه. قالوا: و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام. و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه. و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده. و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق. و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة و السماء فوقنا. و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال. و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. و هذه نبذة كافية و الله المعين. و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق:
لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا
إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا
و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا
و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا
و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا
خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا
فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا
و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي:
الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه
و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه
و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه
و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه
فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه
و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه
و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه
و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه
و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه
و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده عتبا عليه مطالبا بيمينه
الفصل السادس و الخمسون: في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر. وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه. و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد. و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه. و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع و الخمسون: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق. و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها. و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات. و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل، و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار، و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها. و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا:
لم أذر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها و البالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: و من أين لك ذلك، فقال: من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي. و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا. و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال: لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة. و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة. و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي: و الله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه. و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم، و الله خلق الإنسان و علمه البيان.
الفصل الثامن و الخمسون: في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره
إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب، إنما سره و روحه في إفادة المعنى. و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية. و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير، و تعريف و تنكير، و إضمار و إظهار. و تقييد و إطلاق و غيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. و الظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة، و سموها بالبيان. و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها. و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة، و بهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة و خطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، و يدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، و المطابقة بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني. فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة.
و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل: والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى، و مثل: فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى، إلى آخر التقسيم في الآية. و كذا: فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا إلى آخر الآية. و كذا: هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. و أمثاله كثير. و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. و كذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد. و يقال إنه وقع في شعر زهير.
و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا، و أتوا منه بالعجائب. و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعه. و يأتون منها بالعجب. و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس. و جاء على آثارهم حبيب و البحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع. و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة. مثل قول قيس بن ذريح:
و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قول كثير:
و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.
و أما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب و طبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، و نسجوا على منوالهم. و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، و.... يتّبع ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق