الجمعة، 2 ديسمبر 2011

مقدمة أبن خلدون : الجزء السابع عشر


لها من الانفشاش و الهشاشة ليحسن هضمة في المعدة و يستحيل سريعا إلى الغذاء. و كذا إكسير الذهب و الفضة فيما يحصل فيه من المعادن يصرفه إليهما و يقلبه إلى صورتهما. هذا محصل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق و المعاش فيه و يتناقلون أحكامه و قواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم و يتناظرون في فهم لغوزها و كشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمى. كتآليف جابر بن حيان في رسائله السبعين و مسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم و الطغرائي و المغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم و أمثالها و لا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها. ففاوضت يوما شيخنا أبا البركات التلفيفي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك و وقفته على بعض التآليف فيها فتصفحه طويلا ثم رده إلي و قال لي و أنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة. ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط. إما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن بالصناعة مثل تبييض النحاس و تلبيسه بالزوق المصعد فيجيء جسما معدنيا شبيها بالفضة و يخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر أصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس و يطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص. و هؤلاء أخس الناس حرفة و أسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاسا في الفضة و فضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شر من السارق. و معظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع و مساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية و يموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب و الفضة و النفوس مولعة بحبهما و الاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش. ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف و الرقبة إلى أن يظهر العجز و تقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر و يستجدون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم. و لا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم و هذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل و الرداءة و الاحتراف بالسرقة و لا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم و تناولهم من حيث كانوا و قطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأن فيه إفسادا للسكة التي تعم بها البلوى و هي متمول الناس كافة. و السلطان مكلف بإصلاحها و الاحتياط عليها و الاشتداد على مفسديها. و أما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها و نزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين و نقودهم و إنما يطلب إحالة الفضة للذهب و الرصاص و النحاس و القصدير إلى الفضة بذلك النحو من العلاج و بالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم و بحث في مداركهم لذلك. مع أنا لا نعلم أن أحدا من أهل العالم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية إنما تذهب أعمارهم في التدبير و الفهر و الصلابة و التصعيد و التكليس و اعتيام الأخطار بجمع العقاقير و البحث عنها. و يتناقلون في ذلك حكايات و تمت لغيرهم ممن تم له الغرض منها أو وقف على الوصول يقنعون باستماعها و المفاوضات فيها و لا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه و قالوا إنما سمعنا و لم نر. هكذا شأنهم في كل عصر و جيل و اعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم و قد تكلم الناس فيها من المتقدمين و المتأخرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه فنقول إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المتطرقة و هي الذهب و الفضة و الرصاص و القصدير و النحاس و الحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول و كلها أنواع قائمة بأنفسها أو إنها مختلفة بخواص من الكيفيات و هي كلها أصناف لنوع واحد ؟ فالذي ذهب إليه أبو البصر الفارابي و تابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد و أن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة و اليبوسة و اللين و الصلابة و الألوان من الصفرة و البياض والسواد و هي كلها أصناف لذلك النوع الواحد و الذي ذهب إليه ابن سينا و تابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول و أنها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل و جنس شأن سائر الأنواع. و بنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدل الأغراض حينئذ و علاجها بالصنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخذ. و بنى أبو علي بن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة و استحالة وجودها بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه و إنما يخلقه خالق الأشياء و مقدرها و هو الله عز و جل. و الفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتصوف فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. و غلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول. و رد عليه بأن التدبير و العلاج ليس في تخليق الفصل و إبداعه و إنما هو في إعداد المادة لقبوله خاصة. و الفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه و بارئه كما يفيض النور على الأجسام بالصقل و الإمهاء. و لا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره و معرفته قال: و إذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التراب و النتن و مثل الحيات المتكونة من الشعر و مثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. و تكوين القصب من قرون ذوات الظلف و تصييره سكرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذهب و الفضة. فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب و الفضة. ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها. انتهى كلام الطغرائي بمعناه. و هو الذي ذكرة في الرد على ابن سينا صحيح. لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها و بطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي و لا ابن سينا. و ذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا و يحاذون في تدبيرها و علاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى أحالته ذهبا أو فضة و يضاعفون القوى الفاعلة و المنفعلة ليتم في زمان أقصر. لأنة تبين في موضوعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله و تبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف و ثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى و الكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته و ذلك هو الإكسير على ما تقدم. و اعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلابد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها فلابد من الجزء الغالب على الكل. و لابد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته، ثم كل متكون في زمان فلابد من اختلاف أطواره و انتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته. و انظر شأن الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم إلى نهايته. و نسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها و كيفياتها و إلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر و كذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر. فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة و ثمانين و ما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن و يحاذيه بتدبيره و علاجه إلى أن يتم. و من شرط الصناعة أبدا تصورها يقصد إليه بالصنعة فمن الأمثال السائرة للحكماء أول العمل آخر الفكرة و آخر الفكرة أول العمل. فلابد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة و نسبها المتفاوتة في كل طور و اختلاف الحار الغريزي عند اختلافها و مقدار الزمان في كل طور و ما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة و يقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية كصورة الخميرة للخبز و تفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها و مقاديرها. و هذه المادة إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك و إنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة. بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني. و نحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه و نسبته و أطواره و كيفية تخليقه في رحمه و علم ذلك علما محصلا بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلمنا له تحليق هذا الإنسان وأنى له ذلك. و لنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول حاصل صناعة الكيمياء و ما يدعونه بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعية المعدنية بالفعل الصناعي و محاذاتها به إلى أن يتم كون الجسم المعدني أو تخليق مادة بقوى و أفعال و صورة مزاجية تفعل في الجسم فعلا طبيعيا فتصيره و تقلبه إلى صورتها. و الفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادة ذات القوى فيها تصورا مفصلا واحدة بعد أخرى. و تلك الأحوال لا نهاية لها و العلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها و هو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات. هذا محصل هذا البرهان و هو أوثق ما علمته و ليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته و لا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة و قصور البشر عنها. و ما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك و له وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. و ذلك أن حكمة الله في الحجرين و ندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس و متمولاتهم. فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك و كثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. و له وجه آخر من الاستحالة أيضا و هو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطريق في أفعالها و ترتكب الأعوص و الأبعد. فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح و أنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها أو أقل زمانا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الفضة و الذهب و تخلقهما و أما تشبيه الطغراءي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب و النحل و الحية وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم. و أما الكيمياء فلم تنقل عن أحد من أهل العالم أنه عثر عليها و لا على طريقها و ما زال منتحلوها يخبطون فيها عشواء إلى هلم جرا و لا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة. و لو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه و أصحابه و تنوقل في الأصدقاء و ضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر و يبلغ إلينا و إلى غيرنا. و أما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة. و إنه مركب يحيل ما يحصل فيه و يقلبه إلى ذلك فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين و تعده للهضم و هو فساد و الفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال و الطبائع. و المطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه و أعلى فهو تكوين و صلاح و التكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة. و تحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان و مسلمة بن أحمد المجريطي و أمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية و لا تتم بأمر صناعي. و ليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية و سائر الخوارق و ما كان من ذلك للحلاج و غيره و قد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبة ذلك. و كلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى و هذا كلام جابر في رسائله و نحو كلامهم فيه معروف و لا حاجة بنا إلى شرحه و بالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع فكما لا يتدبر ما منه الخشب و الحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم و لا شهر و لا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد ما وراء عالم الطبائع و عمل الصنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله و عمله و يقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لأن نيله إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الطبائع و الصنائع كالمشي على الماء و امتطاء الهواء و النفوذ في كشائف الأجساد و نحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير و نحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني و على ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربما أوتيها الصالح و يؤتيها غيره فتكون عنده معارة. و ربما أوتيها الصالح و لا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره. و من هذا الباب يكون عملها سحريا فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس و خوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحرا. و لهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها إلغازا لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر و اطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة. و أمور خرق العادة غير منحصرة و لا يقصد أحد إلى تحصيلها. و الله بما يعملون محيط. و أكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة و انتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش و ابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة و التجارة و الصناعة فيصعب العاجز ابتغاءه من هذه و يروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء و غيرها. و أكثر من يعني بذلك الفقراء من أهل العمران حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها و استحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان عليه الوزراء فكان من أهل الغنى و الثروة و الفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش و أسبابه. و هذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها و انتحالها. و الله الرازق ذو القوة المتين لا رب سواه.

الفصل الرابع و الثلاثون: في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل
اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم و الوقوف على غاياته كثرة التآليف و اختلاف الاصطلاحات في التعاليم و تعد طرقها ثم مطالبة المتعلم و التلميذ باستحضار ذلك. و حينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها و مراعاة طرقها. و لا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور و لابد دون رتبة التحصيل. و يمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا و ما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس و اللخمي و ابن بشير و التنبيهات و المقدمات و البيان و التحصيل على العتبية و كذلك كتاب ابن الحاجب و ما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية و البغدادية و المصرية و طرق المتأخرين عنهم و الإحاطة بذلك كله و حينئذ يسلم له منصب الفتيا و هي كلها متكررة والمعنى واحد. و المتعلم مطالب باستحضار جميعها و تمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها. و لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير و كان التعليم سهلا و مأخذه قريبا و لكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها و لا تحويلها و يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه و جميع ما كتب عليه و طرق البصريين و الكوفيين و البغداديين و الأندلسيين من بعدهم و طرق المتقدمين و المتأخرين مثل ابن الحاجب و ابن مالك و جميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم و ينقضي عمره دونه و لا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسييبويه و ابن جني و أهل طبقتهما لعظيم ملكته و ما أحاط به من أمصول ذلك الفن و تفاريعه و حسن تصرفه فيه. و ذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب و الطرق و التآليف و لكن فضل الله يؤتيه من يشاء. و هذا نادر من نوادر الوجود و إلا فالظاهر أن المتعلم و لو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات و وسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ؟ و لكن الله يهدي من يشاء.

الفصل الخامس و الثلاثون: في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و إلغاء ما سواها
اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولا، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانيا، إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعنى بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلابد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. و ذلك البيان إنما يكون بالعبارة، و هي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التى خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف، و هي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة و اللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم و هذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، و إن كان معظمها و أشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. و بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية لا يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه و بعد، أو لمن يأتي بعد و لم يعاصره و لا لقيه. و هذا البيان منحصر في الكتابة، و هي رقوم باليد تدل أشكالها و صورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفا بحروف و كلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا، فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم و المعارف، فهو أشرفها. و أهل الفنون معتنون يإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب و المتأخر و هؤلاء هم المؤلفون. و التآليف بين العوالم البشرية و الأمم الإنسانية كثير، و منتقلة في الأجيال و الأعصار و تختلف باختلاف الشرائع و الملل و الأخبار عن الأمم و الدول. و أما العلوم الفلسفية، فلا اختلاف فيها، لأنها إنما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية، في تصور الموجودات على ما هي عليه، جسمانيها و روحانيها و فلكيها و عنصريها و مجردها و مادتها. فإن هذه العلوم لا تختلف، و إنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر. ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها و أشكالها، و يسمى ذلك قلما و خطا. فمنها الخط الحميري، و يسمى المسند، و هو كتابة حمير و أهل اليمن الأقدمين، و هو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم. و إن الكل عربيا. إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان و العبارة غير ملكة أولئك. و لكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. و ربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. و منها الخط السرياني، و هو كتابة النبط و الكلدانيين. و ربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم، و هذا وهم، و مذهب عامي. لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، و إنما هو يستمر بالقديم و المران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع و تنطق بالطبع. و هذا وهم. و منها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل و غيرهم. و منها الخط اللطيني، خط اللطينيين من الروم، و لهم أيضا لسان مختص بهم. و لكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها و يختص بها. مثل الترك و الفرنج و الهنود و غيرهم. و إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا، و أما العربي و العبري فلتنزل القرآن و التوراة بهما بلسانهما. و كان هذان الخطان بيانا لمتلوهما، فوقعت العناية بمنظومهما أولا و انبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني. و أما اللطيني فكان الروم، و هم أهل ذلك اللسان، لما أخذوا بدين النصرانية، و هو كله من التوراة، كما سبق في أول الكتاب، ترجموا التوراة و كتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. و صارت عنايتهم بلغتهم و كتابتهم آكد من سواها. و أما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، و إنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها و إلغاء ما سواها، فعدوها سبعة:
أولها: استنباط العلم بموضوعه و تقسيم أبوابه و فصوله و تتبع مسائله، أو استنباط مسائل و مباحث تعرض للعالم المحقق و يحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعى أولا في الأدلة الشرعية اللفظية و لخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس و استوعبوها، و انتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.
و ثانيها: أن يقف على كلام الأولين و تآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام و يفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. و هذه طريقة البيان لكتب المعقول و المنقول، و هو فصل شريق.
و ثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله و بعد في الإفادة صيتة، و يستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعدة، إذ قد تعذر محوه و نزعه بانتشار التآليف في الأفاق و الأعصار، و شهرة المؤلف و وثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.
و رابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله و فصوله، و لا يبقى للنقص فيه مجال.
و خامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها و لا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها و يهذبها، و يجعل كل مسئلة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم، و في العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة و بقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. و استغنوا بالمدونة و ما فعله ابن أبي زيد فيها و البرادعي من بعده.
و سادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن و جميع مسائله، فيفعل ذلك، و يظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني و أبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو و قد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان و التبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم و انفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة، و صارت أصولا لفن البيان، و لقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم.
و سابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك، بالاختصار و الايجاز و حذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول.
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها. و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل و القحة. و لذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، و انتهى إلى آخرها فقال: و ما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل و القحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. و الله يهدي للتي هي أقوم.

الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم. و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم. و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها. و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل السابع و الثلاثون: في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة. و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات. و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه. و إنما إلى ذلك من سوء التعليم. و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم. و الله يهدي من يشاء. و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه. و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون. و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة. و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب. و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب. و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر. و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى. و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب. فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأولا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه. و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب. و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله. و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها. و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب. و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله.

الفصل الثامن و الثلاثون: في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة. و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة. و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها. و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني. و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له.

الفصل التاسع و الثلاثون: في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث. و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات. و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات. و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه. و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم. و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب. و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم. و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك. و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها. و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان. و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها. و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام. و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها. فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي. و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة. ثم قال: و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه. ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق. و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه.

الفصل الأربعون: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع. و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله. و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين. و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه. و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق. و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين: لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا. و من كلام عمر رضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله. حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته. و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه. و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة. انتهى.

الفصل الحادي و الأربعون: في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل: تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها. و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم. و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الثاني و الأربعون: في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس. و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر. و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية. التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية. و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها. و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم. و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط. و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
فلا توغلن إذا ما سبحت       فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره. و فوق كل ذي علم عليم. و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني. و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.


الفصل الثالث و الأربعون: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي. و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه. و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة. و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك. و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا. فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح. قال صلى الله عليه و سلم: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله و سنتي. فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها. و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم. و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم. و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق. و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين. و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم. و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم: لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس. و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم. و النظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم. و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه. و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر. فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع. و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر. و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني. و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة. فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة. و الله يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا الله و نعم الوكيل و الحمد لله.

الفصل الرابع و الأربعون: في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي
و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها، و هي كلها في الخيال، و بين العلوم العقلية، و هي في الذهن. و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم، و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك. و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر، و روابط و ختام بين المعاني. و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، و جودة الملكة لناظر فيها، و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها، أن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف، و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة. و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب، و بين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة. و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة. و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة. و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم، ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها، و كانت أمية النزعة و الشعار، فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب، و صيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات، و كثرت الدواوين و التآليف، و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم، و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم، و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا. و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب، و دواوينها المسطرة بخطهم، و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها و ذهاب العناية بها. و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال، و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، و هو ظاهر. و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم. فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، و إن صار له فهم الأقوال من الخط، و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة، و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة، و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه في النادر. و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم، كان باع العرب أطول و ملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم. و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا. و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم. و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، و من غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج. و سائر من ليس من أهل اللسان العربي. و في ذلك آيات للمتوسمين.


الفصل الخامس و الأربعون: في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة. و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب. و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. فصار للحروف في لغتهم. و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا. فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين. و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع. و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك. و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة. و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة و كمل أبوابها. و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب. و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين. و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له. و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية. و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك. و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة. و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب. و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه. و الله يزيد في الخلق ما يشاء.

علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين. و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي. و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك. ثم الثالث و الرابع. ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة. ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات. و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات. ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم. و كذلك في الرباعي و الخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف. و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية. و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه. و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص. و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها. و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل. ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين. و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين. و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها. إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة. ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا، و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب. و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش. و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر. و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما. و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. و الله الخلاق العليم لا رب سواه.
فصل: و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد. و لم يعرف لأحد منهم. و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله. على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل، و هو محكم، و على هذا في جمهور الأئمة. و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني. ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، و اللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، و الفرق في غاية الظهور.

علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة، و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده. و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض. و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة. و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات. و هذه كلها هي صناعة النحو. و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة. ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال: زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند. و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة. و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة. و كذلك تقول: جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا، و إنشائية و هي التي لا خارج لها. كالطلب و أنواعه. ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب: فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة. و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما. و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة، و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان. و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس. يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء. و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره. و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري، و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله. و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة، و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا. و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، و العلم البديع سهل المأخذ. و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما. و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور. و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه. و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها. و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه. و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء. و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.

علم الأدب
يتّبع.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق